ألقت الكارثة الوبائية التي تجتاح الصين بثقلها على روسيا في الفترة الأخيرة، ففي 29 يناير دعا بوتين إلى عقد اجتماع مصغّر لتقييم مدى جهوزية بلده للتعامل مع انتشار فيروس كورونا الذي رُصِد للمرة الأولى في مدينة "ووهان" الصينية وعبّر عن ثقته بفاعلية التدابير الوقائية الروسية، لكن بعد أيام عاد وعقد اجتماعاً خاصاً لمجلس الأمن وأعلن اتخاذ مجموعة واسعة من التدابير الاستثنائية، منها وقف شبه تام للتواصل مع الصين عن طريق الجو والبر وسكك الحديد وإجلاء المواطنين الروس (نحو 650 شخصاً) من "ووهان" ومقاطعة "هوبي" المحيطة بها. في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، سُجّلت حالتان من العدوى في شرق سيبيريا، لكن لم تبرز أي حالات جديدة في عطلة نهاية الأسبوع.كان وقف التجارة فجأةً مع الصين كفيلاً بتسليط الضوء على حجم اتكال الاقتصاد الروسي على اتفاقيات غير متكافئة مع الدولة الكبرى المجاورة لها جنوباً. لم تتغير وجهة البلد بسبب العقوبات الغربية وحدها، بل نتيجة تراجع الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي الروسي أيضاً، ما يجعل الاستثمارات المطلوبة سياسياً لبناء خطوط أنابيب جديدة وموجّهة للغرب تفقد أهميتها الاقتصادية. لا يزال سعر النفط العامل المؤثر الأساسي على أداء روسيا الاقتصادي، لكن يؤدي أي تراجع في الطلب الصيني إلى هبوط ذلك السعر بوتيرة تعجز روسيا و"منظمة البلدان المصدرة للبترول" ("أوبك") عن التعويض عنها من خلال تخفيض إنتاج "أوبك"، حتى أن موسكو لا تتوقع حصد أرباح جيدة من صادرات الأسلحة لأن الصين تشهد توسعاً سريعاً في هذه الأسواق في حين يتراجع اهتمامها بشراء أنظمة أسلحة معاصرة من روسيا.
سبق أن اضطربت النُخَب الروسية بعدما فتح بوتين الدستور فجأةً لإجراء تعديلات غير متماسكة، وقد زاد انزعاجها بسبب السلوك الصيني الحازم، يحذر كبار النقاد من تراجع ميل بكين إلى مراعاة المصالح الروسية وإقدامها على تطبيق "سياسة أكثر صرامة". تبدو الانتقادات التي يوجّهها معسكر المعارضة لاذعة بدرجة إضافية، ومن الواضح أنها تضرب على وتر الكرملين الذي يخشى التفوه بأي كلمة يمكن أن تعتبرها بكين بمثابة خيانة لها.يتداخل هذا الخوف مع الرغبة في إثبات قيمة روسيا الفريدة من نوعها كشريكة استراتيجية للقيادة الصينية الغامضة. كان اقتراح بوتين بعقد قمة تجمع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن يهدف إلى تحقيق هذه الغاية، وقد عبّرت بكين عن دعمها لهذه الفكرة مع أنها ستثير استياء الهند واليابان حتماً، ولإثبات قيمة روسيا تقضي طريقة مباشرة أخرى بإرسال مرتزقة إلى مناطق الصراع ما وراء البحار، حيث تملك الصين مصالح اقتصادية مهمة، كما في ليبيا مثلاً، حيث اضطرت بكين لإجلاء نحو 35 ألف عامل وموظف في 2011، لكن يتعارض إثبات القوة بهذا الشكل مع مصالح تركيا، ويتابع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعزيز عمليات الشحن إلى المحاربين الذين يدعمهم في الحرب الليبية ويلوم روسيا على مخالفة الاتفاق الذي يقضي بوقف الاعتداءات على محافظة إدلب التي يسيطر عليها الثوار في سورية.تبقى الصين شريكة صعبة لروسيا، وقد أدت حالة الطوارئ التي سببها انتشار فيروس كورونا المتسارع إلى الكشف عن اضطرابات خفية أخرى. يوم الجمعة الماضي، وجّه بوتين رسالة دعم إلى الرئيس شي جين بينغ، لكن لم يتكلم الزعيمان اللذان يتبادلان دوماً مشاعر ودّية ظاهرياً منذ قمة مجموعة "بريكس" (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) في البرازيل في نوفمبر الماضي، حتى أن روسيا تعجز عن تقديم دعم رمزي للصين لأن مجرد إرسال أقنعة للوجه يتوقف على متابعة التدفقات التجارية. قد تؤدي الصدمات الاقتصادية المرتبطة بالوباء الأخير إلى تحويل الجمود الروسي إلى ركود اقتصادي، لكن قد ترتبط أسوأ نتيجة متوقعة بإثبات مظاهر الفساد وعدم الكفاءة داخل النظام البيروقراطي الفاسد في روسيا مقارنةً بالفاعلية القصوى التي تتمتع بها الدكتاتورية الصينية، سواء وصل الفيروس إلى روسيا أو لم يفعل، لا شك أنه سيؤجج الاستياء العام ويضعف الثقة بالمسؤولين الحكوميين الذين لا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة. * بافيل ك. باييف
مقالات
روسيا تتخبط بسبب التحديات الصينية
11-02-2020