دروس تعلّمتها أميركا من فشل سياستها في العراق
في ضوء المرارة التي طبعت رؤية شريك جيد وموثوق يقع تحت رحمة أطراف معادية، سيكون في وسع صناع السياسة الخارجية تفادي المزيد من النوائب عن طريق تطوير استراتيجية واقعية طويلة الأجل، تدعم جهود الدبلوماسيين والجيش الأميركي، الذي يعمل على شكل أداة لتنفيذ تلك السياسة. ورغم أن قوات سورية الديمقراطية برهنت على أنها شريك حيوي في محاربة تنظيم «داعش»، كما كانت مناطقها واحة نادرة للاستقرار في دولة مزقتها الحرب، فإن انسحاب القوات الأميركية من الحدود الشمالية السورية في أكتوبر 2019 أظهر نهاية الشراكة الأميركية مع قوات سورية الديمقراطية والطبيعة غير الواضحة للوجود الأميركي.وكان غزو الجيش التركي لمناطق قوات سورية الديمقراطية أسفر عن تهجير أكثر من مئة ألف نسمة، وصدور اتهامات بارتكاب جرائم حرب من قبل تركيا وميليشياتها هناك، وأطلق ذلك صرخة واسعة من جانب وسائل الإعلام الغربية والسياسيين الأميركيين، والكثير من حلفاء الولايات المتحدة. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن الانسحاب الأميركي مفاجئاً بسبب القلق التركي المتزايد من العلاقة الأميركية – التركية، وسياسة واشنطن غير الواضحة إزاء الوجود الأميركي الطويل الأجل في سورية.
مؤشرات ذات معنى
كان يتعين منذ بداية الشراكة الأميركية- الكردية في سورية، والتي برزت في معركة كوباني في 2014، عندما وفرت الولايات المتحدة المساعدة الجوية للقوات البرية الكردية مدى معارضة تركيا للترتيبات السياسية التي أسفرت عنها تلك الخطوة. ولم تكن معركة كوباني بداية جهود أميركية تهدف إلى مساعدة القوات الكردية على الأرض، بل أظهرت أولوية تركيا لتحجيم طموحات الأكراد بدلاً من محاربة «داعش».وكانت فكرة تركيا، بأن وحدات الحماية الكردية تنتمي إلى حزب العمال الكردستاني، تنطوي على شيء من الحقيقة، كما أن اعتراف الولايات المتحدة بأن حزب العمال الكردستاني هو منظمة إرهابية يجب أن يحظى باهتمام لدى صناع القرار في واشنطن. وعلى أي حال، تم تجاهل هذا القلق من جانب المسؤولين الأميركيين، واستمر دعم وحدات الحماية الكردية، إذ انضمت قوات سورية الديمقراطية لتضاعف مخاوف تركيا التي –بوصفها شريكة في حلف شمال الأطلسي- كانت تتمتع بدعم أميركي.من جهة أخرى، مهّد عدم وضوح الأهداف الأميركية بعد هزيمة «داعش» في سورية السبيل لتراجع الوجود الأميركي السريع، ومع طرد قوات سورية الديمقراطية لعناصر التنظيم من مدينتي الرقة ودير الزور في سورية عام 2017 أصبح من الواضح أن سيطرة «داعش» على مناطق في المستقبل قد وصلت إلى نهايتها. ولم تصدر عن وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين أي رسائل تحدد مدة دعم الولايات المتحدة لقوات سورية الديمقراطية في حملتها لمحاربة التنظيم، إضافة إلى عدم وضوح الأهداف من الحضور الأميركي بعد القضاء على «داعش»، وعلى أي حال، أصبح من غير المحتمل أن تستمر إدارة ترامب في إظهار دعمها للأكراد في سورية.موقف ترامب
والأكثر من ذلك، أعرب الرئيس ترامب عن عدم ارتياحه لإبقاء القوات الأميركية على الأرض في سورية، وكان هدد في عام 2018 بسحب كل تلك القوات من ذلك البلد، وكان ذلك يتطلب قرع أجراس الإنذار في وزارتي الخارجية والدفاع حول مستقبل مشاركة الولايات المتحدة في النزاع السوري. وإضافة إلى هذه الوقائع كان يجب أن تشكل تلك التطورات إشارة إلى المسؤولين الأميركيين الذين كانوا يرغبون في استمرار الدعم كي يطوروا خطة للانسحاب من سورية، مع وضع خطط لحماية الحلفاء الأكراد. وعلى الرغم من ذلك، وفي الفترة ما بين إعلان الرئيس ترامب في ديسمبر 2018، وقراره النهائي بسحب القوات الأميركية من مناطق الحدود الشمالية السورية لم تكن هناك ترتيبات كافية لمثل تلك الخطوة، التي باغتت الكثير من المشرعين والمسؤولين الأميركيين، كما تبين من الفوضى التي رافقت الانسحاب.ولعل أبرز صورة عن المحنة التي تواجه الأكراد السوريين قد تمثلت في جهودهم الهادفة إلى الحفاظ على الدعم الأميركي، ومدى ضعف ذلك الجهد مقارنة بالخطوات التركية ذات الصلة. وفي الكابيتول هيل تعلمت تركيا هذا الدرس من خلال سنوات من الجهد الرامي إلى إقناع المشرعين الأميركيين بعدم الاعتراف بالمذبحة التي استهدفت الأرمن، ومعارضة المصالح اليونانية في جزيرة قبرص. تجدر الإشارة الى أن الجناح السياسي في قوات سورية الديمقراطية كان يحظى بدعم وتأييد من جانب مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية، وكانت تلك القوات قادرة على الوصول إلى المشرعين الأميركيين من أمثال ماركو روبيو (جمهوري من ولاية فلوريدا)، وتيم كين (ديمقراطي من ولاية فيرجينيا)، ورون جونسون (جمهوري من ولاية ويسكونسن)، إضافة إلى كل أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، كما أن زعيم حزب قوات سورية الديمقراطية مظلوم عبدي أجرى في الآونة الأخيرة محادثات مع الرئيس ترامب. وكانت الدعاية التركية جلية أيضاً في مراكز التفكير ووسائل الإعلام في الولايات المتحدة، في ضوء الحملة المضادة لـ»داعش»، والتصرفات التركية الأخيرة بصورة عامة.وعلى أي حال، لا تعتبر جهود تركيا للترويج لمصالحها في أوساط المشرعين الأميركيين خطوة جديدة، فهي واضحة من خلال إنفاقها 1.7 مليون دولار منذ عام 2009. وفي عام 2018 وحده أنفقت تركيا نحو 6.6 ملايين دولار على جهود الضغط مقابل 120 ألفا أنفقها مجلس قوات سورية الديمقراطية. والأكثر من ذلك، هناك الكثير من المسؤولين الأميركيين الذين خدموا المصالح التركية من أمثال المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية بورتر غروس، وزعيم الأكثرية الديمقراطية السابق في مجلس الشيوخ توم داشل، ومستشار الأمن القومي السابق لدى إدارة ترامب الجنرال المتقاعد مايك فلين وغيرهم. وكان يتعين أن تتطلب هذه الصور درجة من الاهتمام لدى أعضاء الكونغرس الأميركي الذين شجبوا الانسحاب الأميركي.استراتيجية دعم الأكراد
كان من غير الواقعي الظن بأن استراتيجية أجل طويل تحبذ الأكراد السوريين ضد مصالح تركيا الشريكة في حلف شمال الأطلسي يمكن أن تكون محتملة ومقبولة، رغم تصرفات أنقرة المعاكسة. ومن المؤكد أن الجهود البطولية والمكلفة التي بذلها الأكراد في سورية لمحاربة «داعش» قد حظيت بدعم المسؤولين الغربيين، ولكن ذلك يخفي أيضاً البعض من الحقائق القاسية.وفيما اعترفت إدارة باراك أوباما بفعالية وتأثير جهود وحدات الحماية الشعبية في محاربة «داعش» فقد تجاهلت مصالح تركيا في سورية والعراق – وسواء ظنت إدارة ترامب أن هذه هي الحالة أم لا فإن قراره بسحب القوات الأميركية من منطقة الحدود قد فسر بجلاء في الأحداث التي وقعت في شهر أكتوبر 2019، وما كان تحت أي ظروف أن يتعرض صناع السياسة وقادة الجيش في الولايات المتحدة لمفاجأة من هذا النوع.وإضافة إلى ذلك، فقد وفرت ستة عقود من العلاقات مع الولايات المتحدة لتركيا المعرفة اللازمة، من أجل التحرك والتصرف مع دوائر القرار في واشنطن. وفي وسع صناع القرار وخبراء السياسة الخارجية في الولايات المتحدة تفادي حدوث المزيد من النوائب في المستقبل، وذلك من خلال تطوير استراتيجيات واقعية طويلة الأجل في سورية لمواجهة موجة الكراهية للأميركييين في ذلك البلد.* رايان غاردنر