يعتبر التواصل بين المبدع وجمهوره عبر مواقع التواصل الاجتماعي أمراً مهماً، وهذا ما أجمع عليه الأدباء: لينا الحسن، وكاتيا الطويل، وكامل الرياحي، وكان فلوبير يقول "على الفنان أن يجعل الأجيال اللاحقة تعتقدُ أنَّه لم يكن موجودا"، والسؤال الذي يفرضُ نفسه، هل يمكن للأديب أن يتعاملَ بهذا المنطق مع جمهوره في عصر الثورة المعلوماتية، حيث يزداد يوماً وراء يوم عدد مرتادي ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحت منصاتها مفتوحة في وجه المواد المتنوعة؟ إذ إن المجال متاح للجميع للمشاركة بأفكارهم وتعليقاتهم حول ما يضخُ في العوالم الافتراضية، ومن المعلوم أنَّ كثيراً من مشاهير السياسة والفن يعلنون مواقفهم، ويكشفون عن مشاريعهم من خلال تغريداتهم ومنشوراتهم في صفحاتهم الخاصة، ومن ثمَّ تنتقلُ تلك المعلومات إلى الإعلام التقليدي، وهذا يعني تخضم دور الإعلام البديل وامتداده إلى كل مناحي الحياة.
منطق الأديببالعودة إلى السؤال حول منطق الأديب وسلوكه في التواصل مع الجمهور والقراء، وما يحتمله الواقع الافتراضي من التحولات، يجبُ إجراء مقارنة سريعة بين دور المطبعة في انتشار الكتب، وتأثير الشبكة العنكبوتية على المستويين الثفافي والفكري عبر إنشاء المكتبات الإلكترونية، حيثُ يمكن الوصول إليها بفضل محرك البحث.وقبل ظهور الطباعة لم تكن الكتب متوافرة لكل من يرغب في المعرفة والقراءة، وركنت المؤلفات النادرة في مكتبة الأرستقراطيين باعتبارها زينةً أو شهادةً لعراقة النسب، لكن هذا الواقع قد تبدلَّ مع اختراع المطبعة، وبالتالي فرصة اكتساب المعرفة لم تعد حكراً على مجموعة معينة إنما بدأت مرحلة جديدة على الصعيدين المعرفي والفكري وتوجَّتها حركة التنوير، إذ حل المفكر مكان الكاهن أو رجل الدين في المجتمع، وانتهت شرعية وصاية سلطة الأكليروس على العقل، فأصبح الإنسانُ مُتحرراً من المُحددات اللاهوتية. ولاشكَّ أنه كان وراء هذا المنعطف الفكري عدة عوامل، لعلَّ أبرزها المطبعة التي ساهمت في انتشار النتاجات الفلسفية والأدبية والعملية على نطاق أوسع.فالغرضُ مما قدم سلفاً هو الإبانة عن وجود علاقة جدلية بين الإنسان وما يخترعهُ من الوسائل، عندما نجحَ الكائن البشري في تسمية الأشياء من خلال إيجاد لغة الرموز والإيماءة اتخذ الوعي منحى أكثر رقياً، وبذلك تلقي الإنجازات والاكتشافات وإحداثيات العصر بظلالها على النسق الفكري والمسلك الحياتي، حيثُ يجبُ القيام بنحت مفاهيم جديدة لبناء رؤية مواكبة لمتطلبات الواقع واستشراف أفق التحولات فيما يحتد النقاشُ حول دور العالم الافتراضي على اختيارات الفرد، وأشكال الحياة، وتغذية النزعة الاستهلاكية، وإبرام الصفقات التجارية، ونشر الأفكار المتطرفة غاب الاهتمام برصد مفاعيل هذه الوسائط على المستوى الفكري والثقافي والتفاعل السريع بين القارئ والمنتج الأدبي، فأصبح المؤلف يراهنُ على القارئ الذي يخرجُ نصه من العتمة، وهذا ما ينبئ بوجود من يزاحمُ الناقد في وظيفته، ولا ينفردُ طرف معينُ بإعطاء كلمة المرور للنصوص وتعميد الأعمال الأدبية، وما دفع بالقارئ العادي إلى الواجهة هو انفتاح البيئة الافتراضية على الجمهور وهو من فئات وطبائع متنوعة بخلاف ما هو معروف عن الصحف والمجلات، التي لا يخلو نظامها من الطابع النخبوي والاعتبارات الأيديولوجية، بينما تتجاورُ في الوسائط الرقمية خطابات متعددة، وهذا ما يزيدُ من فعاليتها أكثر، إذ بدأَ كثير من الأدباء يفتحون قنوات التواصل المباشر مع متابعيهم، ويعيدون مشاركة التعليقات والآراء في حسابهم الخاص، كما أن غلاف الإصدارات الأدبية يسبحُ على الجدار الأزرق مرفقاً بمقتبسات من المحتوى، لذا ليس من المستغرب وجود هذا التنويه "مأخوذ من صفحة فيسبوك لفلان" في أسفل المقالات المنشورة في الصحف والمواقع الإلكترونية.
منجزات أدبية
ومع تصاعد حجم التفاعل مع المنجزات الأدبية، ومتابعة الأخبار في العالم البديل يزداد نشاط المبدعين في المساحات الافتراضية، تقول الروائية السورية لينا الحسن، إن نسخ روايتها "نازك خان" و"سلطانات الرمل" بيعت منها أضعافاً مضاعفة من "ألما ونساء"، علماً بأنَّ الأخيرة وصلت الى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، نتيجة تفاعل الجمهور مع مضمون العنوانين المشار إليهما سابقاً على وسائل التواصل، وعن مدى استفادة المبدع من رأي متابعيه وإضافة هؤلاء إلى منجزه الأدبي.عدوى الإقبال
وأشارت الحسن إلى أن "مواقع القراءة تثبت حضورك، ورأي القرّاء ببساطة يأتي واضحاً دون فذلكات نقدية"، أكثر من ذلك فإنَّ السوشيال ميديا وصفحات القراءة برأي مؤلفة "بنت الباشا" تلعبُ دوراً كبيراً في نقل عدوى الإقبال على أعمال أدبية بعينها.وجود التنافس
من جهتها، أكدت الكاتبة والروائية اللبنانية كاتيا الطويل أن الكاتب اليوم يستفيدُ من حضوره في وسائل التواصل الاجتماعي ليروج لمؤلفاته، لافتةً إلى وجود التنافس بين صفحات الكتاب الذين ينشرون صورهم ومقتبسات من أعمالهم، غير أن خدمة هذه الوسائط للكتاب محدودة بنظر الطويل، لأنَّ النصّ الجيد هو الذي يضمن للكاتب ثقة قرّائه به وحبّهم له وتعلّقهم بأدبه.السجالات عميقة
وعن رأيها في السجالات الأدبية التي تدور على مرأى من الجمهور على شبكات التواصل، قالت صاحبة "السماءُ تهربُ كل يوم": لا أظنّ أنّ السجالات عميقة وفظّة في عالم الأدب اليوم، خصوصا بين الروائيّين العرب المعاصرين، لاسيما بوجود محافل الأدب ومعارض الكتاب والجوائز واللجان، فلم يعد الكاتب يستطيع إشهار عداوته وسخطه من دون أن يخشى العواقب الاجتماعيّة عليه وعلى مبيع كتبه.عاصفة غضب
بدوره، صرح الروائي التونسي كمال الرياحي بأنَّه يتعامل مع الكتابة بوصفها لعبة، وتهمهُ مشاركة القارئ فيها. يُذكر أنَّ مؤلف "البيريتا يكسبُ دائما" يتواصل مع جمهوره باستمرار، وينشرُ صور قرائه وهم يحتفون بإصداره الجديد على جداره الأزرق، وفي هذا السياق لابدَّ من الإشارة إلى عاصفة غضب معجبي الروائي البرازيلي باولو كويلو على روايته (الزانية)، حيثُ عبروا بشتى الطرق عن استهجانهم لهذا العمل الذي خيب بموضوعه، الذي وُصف بالمبتذل، أفق توقعهم.إذاً فإنَّ القارئ في عصر العالم الافتراضي أصبح مراقباً لكاتبه المفضل، وقد يفتحُ معه مباشرة حلقة النقاش حول منجزه الإبداعي مبدياً رأيه دون المواربة، فبدلاً من أن ينتظرَ الكاتب آراء النقاد ويترقبُ ما يكتبُ عن إصداراته الجديدة في الصحف يراهنُ على ما يقوله القارئ العادي عن نصوصه، وقد يكونُ هذا الواقع عاملاً لتشكيل مزاج جديد في الكتابة ونشوء ذائقة حساسة، إذاً لم يعد الكاتبُ كائناً يبدع في صومعته ولا القارئ مجرد مستهلك بل ثمة جوائز تمنح باسمه.