التحلّي بالحِلم وخَفض الجناح
أصدر المستشار رئيس المحكمة الكلية الموقر في التعميم المؤرخ 26/9/2019 للسادة مستشاري ووكلاء وقضاة المحكمة الكلية أوامر وتعليمات انحصرت في 41 أمراً، من الأهمية بمكان الإيمان والالتزام بما ورد فيها من توجيهات واعتبارات.ولعل الكثير يرى- والكاتب أولهم- أن الأمر الثاني من التعميم وهو ضرورة التحلّي بالحلم وخفض الجناح في التعامل مع المتقاضين والمحامين والمراجعين هو ملاك ذلك التعميم كله، لأن تلك الصفات يتعين أن تكون متلازمة في القضاة لا تنفك عنهم وصولاً إلى إرساء العدل وتحقيقه.ولما كان العدل هو أول أمرٍ أمر به الله تبارك وتعالى بالقرآن الكريم في سورة النحل «إن الله يأمُرُ بالعدل...»، وعطفاً على القرار رقم 4/2020 الأخير الصادر من المستشار رئيس المحكمة الكلية المؤرخ 20/1/2020 بتحديد جلسات الطعن بالمعارضة أو بالاستئناف في قضايا الجنح العادية في ميعاد لا يجاوز الشهرين دون النظر إلى عدد القضايا والطعون المقيّدة في كل جلسة، هو في واقع الحال ولسانه يحتاج إلى إعادة نظر استناداً للملاحظات الآتية، وقبل أن يلج الكاتب فيها يؤكد أنها ليست نقداً ولا تقويم اعوجاج، بل إن القرار ومُصدره محل توقير واحترام، وهي على النحو الآتي:
• إن الأحكام التي تصدر بسقوط الدعوى الجزائية لفوات مدة التقادم في الجنح من آخر إجراء صحيح تم فيها وهي بصدور الحكم الذي تم الطعن عليه بطريقي المعارضة أو الاستئناف بسبب خلل إداري ودورة مستندية رتيبة في إدارة الكتاب أو ربما يرجع في ذلك إلى الادعاء العام، لاسيما إذا تم نقل الملفات إلى مخازن خارج المحكمة تحتاج إلى فترة طويلة حتى يؤتى بالملف الأصلي إلى المحكمة مُحمّلاً بالغبار، وليس بسبب راجع إلى عدد القضايا والطعون المقيّدة في كل جلسة، مما يترتب عليه الحكم بسقوط الدعوى عملاً بالمادتين 6 و8 من قانون الجزاء. فالحل ليس بزيادة كاهل نظر طعون المعارضة والاستئنافات وإحصاء عددها توخياً للحكم بسقوطها بالتقادم بسبب بطء تحديد الجلسات والآلية الرتيبة لإدارات وزارة العدل، فالإنجاز يكمن في سلامة بنيان الأحكام وسلامة أسبابها ومتانتها لا بعدد الدعاوى التي تم نظرها والفصل فيها كماً، فالحل بزيادة عدد القضاة ودوائر الجنح والجنح المستأنفة، وعلى الدولة تحمل وزر سوء الإدارة، وتحمل سلحفائية الادعاء العام.• إن القرار الأخير ربما يصطدم مع الأمر رقم (31) من الأوامر الواردة في التعميم المشار إليه في مطلع المقال، الذي نص على ضرورة تضمين الحكم الجزائي الصادر في المعارضة أو الاستئناف بياناً موجزاً عن التهمة المسندة إلى المتهم ومواد الاتهام والعقوبة المحكوم بها، ليكون مستوفياً لكل مقوماته المقررة قانوناً، فكيف سيتسنى لدوائر الجنح والجنح المستأنفة أن تلتزم بمبدأ الكافيّة الذاتية للحكم القضائي؟ في حين قد يصل رول الجلسة في اليوم إلى عدد 120 دعوى كحد أدنى تتراوح قراراتها ما بين تأجيل للاطلاع وللمرافعة، وربما لا يُعلن المتهم المُستأنف بموعد جلسة الاستئناف فلا يحضر، ومن ثم يصبح مآل استئنافه كأن لم يكن، عملاً بالفقرة الأخيرة من المادة 204 من قانون الإجراءات، لا جرم أن ما تقدم سيسهم في إرباك الدائرة وإرهاق أعضائها أخذاً في الاعتبار أنهم أعضاء في دوائر أخرى.• إن آثار هذا القرار قد يؤدي إلى عزوف الكفاءات عن دوائر الجنح والجنح المستأنفة بسبب كثرة القضايا وتكدسها، ليس لأن القضاة يبحثون عن الراحة، بل لأنهم يؤمنون بأن رأس أولوياتهم الإلمام بوقائع كل دعوى والبحث في سلامة الأدلة وموازنتها وصولاً إلى إرساء العدل.• إن الازدحام الشديد في الرول قد يؤدي– بحكم اللزوم- إلى عدم مراعاة أمر المستشار رئيس المحكمة رقم (20) في التعميم المشار إليه سلفاً الذي يؤكد التصدي للفصل في الدعوى المدنية مع الحكم الصادر في الدعوى الجزائية، لأنها ستُعطّل الفصل فيها عملاً بالمادة 113 من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية، بالتالي ستكثر الإحالات إلى المحكمة المختصة، ومن شأن ذلك إطالة أمد الخصومة دون مقتضى، ومن شأن ذلك تضخم عدد الدعاوى المدنية أمام المحاكم المختصة بزيادة الإحالات ازدياداً طردياً.إزاء كل ما سبق، فإن سريرة الكاتب لا ترمي إلى التدخل في قرارات السيد المستشار رئيس المحكمة بقدر ما هو قراءة ثانية لآثار ذلك القرار. في الختام أسأل الله الحق العدل أن يُريَ السيد رئيس المحكمة الموقر والسادة المخاطبين بالتعميم المُشار إليه الحق حقاً ويرزقهم اتباعه ويُريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه، وأن يوفقهم لكل خير.