شهدت بورصة الكويت نقلة نوعية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بفضل الجهود المشتركة بين هيئة أسواق المال والمقاصة وإدارة البورصة، حيث استطاع الفريق المشترك إصلاح وتطوير البنية التحتية للتداول، وتأهيلها للترقي لمصافّ البورصات الناشئة في المؤشرات العالمية المختلفة، وهو إنجاز يستحق الإشادة به، خصوصًا في ظل الظروف السياسية والعجز الحكومي وتوقّف عجلة نمو الاقتصادي المحلي، لكن السؤال الذي يدور في بال الكثيرين، هو: ماذا بعد ترقية البورصة؟خلال هذا المقال سأحاول شرح بعض المخاطر المنطقية التي قادتني إلى الابتعاد أو على الأقل التخوف من الاستثمار في بورصة الكويت، خصوصاً بعد الأخبار الإيجابية وجذب الاستثمارات الأجنبية التي قادت البورصة لتحقيق ارتفاعات قياسية تقارب الـ 30 بالمئة في 2019، واستمرار الارتفاعات منذ مطلع هذا العام، مع التأكيد بأن قناعتي الشخصية ليست دعوة إلى الخروج من السوق، ولا يجب الاعتماد عليها كتوصية، بل هي دعوة صادقة من قلب محبّ للجميع، وخصوصًا اللاعبين الرئيسيين في الأسواق لمراجعة أسبابها قبل فوات الأوان، فطبيعة الاستثمار تعتمد علي قدرة الأشخاص على تحمّل المخاطر، والرضا بالعوائد التي تتناسب مع هذه المخاطر، ويمكن تلخيص الأسباب التي قادتني الى قراري: المخاطر المصاحبة للأموال الأجنبية الساخنة، وندرة الفرص وتركّز المخاطر، وضعف الرقابة والمحاسبة، وغياب السياسة الحكومية في التعامل مع السوق، وتوفير بيئة داعمة ومشجعة للإدراج والاستثمار.
الأموال الأجنبية ساخنة
السبب الرئيسي في وجهة نظري، هو عدم استغلال الشركات للمتغيرات الجديدة، وفشلها بتطوير نماذج أعمالها بسرعة تتواكب مع التغيرات والتطورات الحاصلة علي المستويين المحلي والإقليمي، فالأسعار ومكررات الربحية وصلت إلى مستويات قياسية لعدد كبير من الشركات، والنمو ما يزال محدود في متوسط ربحية، ويرتكز في غالبيته على الاستثمارات الخارجية للبنوك والشركات، في ظل ركود الاقتصاد المحلي في السنوات الأخيرة، في حين لا تزال أغلب الشركات، إلا من رحم ربي، تقاد بنفس الطرق والأساليب، فالارتفاعات القياسية خلال العام الماضي لم يصاحبها أي تغيير حقيقي بالقيم الأساسية لأغلب الشركات، التي لم تستثمر في رأسمالها البشري ولم تدعم الابتكار، ولم تطور أو تطرح منتجات جديدة تتماشى مع تطور السوق وواقع اليوم، فالوقت المطلوب من الشركات استغلال الفرصة، وقيادة السوق وتوجيه الأموال نحو الاستثمار المؤسسي بشكل احترافي، خصوصا في ظل عدم الاستقرار السياسي، والتذبذب الكبير في أسعار النفط، ونمو المخاطر الجيوسياسية الإقليمية والعالمية، وضبابية المشهد الاقتصادي العالمي.وعلي الرغم من أن المستثمرين الأجانب وفّروا سيولة كبيرة للسوق، وربما قللت من سعر الاقتراض لانخفاض علاوة مخاطر الأسواق، فإن بورصة الكويت أصبحت معرّضة أكثر من أي وقت سابق للانكشاف على هذه الاستثمارات عند أي هزّة، فالمليارات الأجنبية أموال ساخنة سريعة الحركة، ممكن أن تخرج بوقت أسرع وأقصر من دخولها، مما يعرّض الأسعار لصدمات تصعب معالجتها إن لم يكن هناك استعداد حقيقي لها، وما حدث مع نمور شرق آسيا ما هو إلا مثال بسيط على الهزات التي يمكن أن يسببها سحب الاستثمارات الأجنبية، فما زالت بعض الدول تعاني آثار هذه الصدمات إلى اليوم.باختصار، فإن أغلب الارتفاعات في الفترة السابقة كانت بسبب الأجواء الإيجابية المرتبط بالترقية، والسيولة المليارية الأجنبية المتوقع دخولها للسوق، مدفوعة بترقية السوق لا بسبب تطور الشركات، وهذا يصعب جدا أن يستمر بعد شهر مايو المقبل، خصوصا أن أغلب الاستثمارات الأجنبية خاملة، ولن يكون لها أي دور حقيقي في واقع عمل الشركات، فالمستثمر الأجنبي لن يعمل على تطوير السوق والمنتجات أكثر من المواطنين وأصحاب القرار، لذلك يجب التعلّم من تجارب الدول الأخرى حتى لا نتجرع مرارة ما ذاقوا.ندرة الفرص
هذا يقود الإدارة الجديدة للبورصة إلى العمل بجدية على جذب الشركات ومراجعة استراتيجيتها، فالآمال كبيرة علي إدارة القطاع الخاص لهذا المرفق الحيوي، والإدراجات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في آخر السنوات، وحققت عوائد سلبية على المديين المتوسط والطويل، وكانت نتائجها غير جذابة من ناحية استثمارية بحتة حتى الآن للشركات التي ما زالت خارج السوق، على الرغم من الجهود الكبيرة المبذولة من العاملين على البورصة، من تقسيم الأسواق، ومؤتمرات المحللين الفصلية للسوق الأول، لزيادة الشفافية وتشجيع التداول، فما زالت غالبية التداول على عدد محدود جدا من الشركات، لا يتجاوز الـ 10 شركات، والتي تسيطر على ما يقارب من ثلثين السيولة، حيث ترتكز غالبية السوق في قطاع البنوك فقط، الذي يمثل 60 في المئة من القيمة السوقية و٥٥ في المئة من مجموع أرباح جميع شركات السوق، وكذلك يستحوذ على 85 في المئة تقريبًا من السيولة الأجنبية المستثمرة.لذلك هناك تحدّ كبير أمام الإدارة الجديدة للبورصة بعد خصخصتها، فيجب مراجعة سياساتها في السنوات الماضية، والسعي إلى جذب الشركات النوعية، التي تشكّل إضافة إلى السوق، مع الحرص على توفير فرص جديدة للمتداولين لتوزيع المخاطر، ولتنويع محافظهم الاستثمارية، والعمل على توفير إجابات حقيقية ومقنعة مع الكثير من الحوافز للشركات العائلية، مع السعي إلى جذب الشركات التكنولوجية الناشئة، التي سجلت نجاحات باهرة في آخر السنوات، وفاقت القيمة السوقية لبعضها العديد من الشركات المدرجة، مما يشجع على توفير نوافذ للتخارج لشركات هذا القطاع الواعد، كل ذلك للوصول إلى صورة مقنعة بأن الأسواق والإدراجات وسيلة لبناء وترسيخ الحوكمة والشفافية، التي ستوفّر ضمانات لاستمرار أعمال هذه الشركات وتطويرها ونموها، ومحو الصورة القائمة بأنها تضحية بالوقت والجهد، في ظل قوانين ولوائح التي تكلف كثيرا من الوقت والمال، ليصل الجميع إلى قناعة بأن طرح الشركات لمصلحة السوق والعوائل التجارية وجميع المستثمرين.وكالة «يقولون»
وفي ظل غياب الرقابة الصحيحة والعقوبات الرادعة، مع التزام الشركات بالحد الأدنى المطلوب للالتزام بالقوانين، ومحاولة خلق كثير من المناطق الرمادية، مازال التداول على أساس المعلومات الداخلية وسيلة أغلب المتداولين، والأسوأ أن اللعب أصبح على المكشوف، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بات سلاح المتلاعبين، فمجموعات الـ "واتساب" والـ "تلغرام"، إضافة إلى تغريدات بعض الحسابات المعروفة والمجهولة أسرع طريقة لكثير من المجاميع للتلاعب بشركاتها، والشاهد تكرار مشهد التدولات غير الاعتيادية قبل الإفصاحات الجوهرية، كل ذلك أمام أعين ومرأى الجميع، بما في ذلك الجهات الرقابية، فالتغريدة أصبحت سلعة، لها سعر، تشترى وتباع، وترفع وتهبط بالأسعار، والضحايا الصغار والمتداولون الجدد كالعادة، في ظل غياب المحاسبة والمراقبة الحقيقية، وحماية حقوق المساهمين.غياب الرؤية الحكومية
يجب أن تكون هناك وقفة جادة ومراجعة للدور الحقيقي للحكومة في بورصة الكويت، فلا يمكن لأكبر مالك في سوق المال أن يقود ويطور بيئة الأعمال عبر الاستثمارات الخاملة، والتمثيل السلبي الذي لا يتناسب مع القيمة المستثمرة، فيجب التفكير بجدية في التحول إلى القيادة بدل الإنقاذ، فالأمر أصبح ضرورة، خصوصًا فيما يتعلق بمستقبل الاقتصاد المحلي، فتنمية أسواق المال إحدى وسائل الإصلاحات الاقتصادية، وتوعية جميع الأطراف ذات الصلة بأهمية بالدور الإيجابي للبورصات، من خلق فرص عمل، وتوفير سيولة للنمو، وفرص للاستثمار، وحوكمة ورقابة للمحافظة على الأصول، ويعزز الشفافية والرقابة على الاقتصاد المحلي، الذي بات ضرورة وسط تفشي الفساد.فالمطلوب من الحكومة اليوم هو توفير بيئة استثمارية آمنة، وتحرير الاقتصاد المحلي، من خلال دعم المقترح النيابي بحكر المناقصات الحكومية والنفطية على الشركات المدرجة، وخصخصة بعض القطاعات والخدمات غير الحيوية، وأوّلها شركات البتروكيماويات والخدمات النفطية والخدمات العامة، إضافة إلى مراجعة سياسة أملاك الدول لتوجيهها لشركات السوق، ومنح امتيازات وحكر بعض الدعومات على الشركات المدرجة، مما يشجع عمليات طرح المزيد من الشركات، مما يوسع من القاعدة الرأسمالية للسوق، ويخلق فرصا جديدة للمتداولين، فمازالت آخر الدراسات والتقارير تشير الى ندرة الفرص في السوق المحلي، بالرغم من توافر السيولة وانخفاض أسعار الفائدة، وما تغطية الاكتتابات الأخيرة، والسيولة العاليه لدى أغلب البنوك والكثير من شركات الاستثمار إلا دلائل صريحة على اهتمام ورغبة جميع المواطنين والشركات في الاستثمار متى ما وجدت الفرصة المناسبة.وحتى يتغير كل ذلك، قررت بشكل شخصي الابتعاد عن السوق، ويجب ألا أنكر أن هذه قناعة شخصية يجب ألا تعمم، فالأكاديميون متحفظون ومتشائمون في العادة، وأقل قدرة على أخذ المخاطر، لذلك بوجهة نظري التضحية ببعض الربح المتوقع أفضل من المغامرة في الوقت الحالي، لكنّ هذه دعوة للجميع للحذر ومعرفة واقع الأسواق اليوم، فالتفاؤل المفرط أولى إشارات الفقاعات، ولأن السوق المحلي سوق هوامير ومضاربين، أنصح جميع من يرغب في البدء بالاستثمار، بالابتعاد عن المضاربة والتداول بناء على الإشاعات ووكالة "يقولون"، واستخدام والاعتماد على وسائل الاستثمار الأكثر أمانة وثقة، والحذر حتى تتوافر بيئة استثمارية شفافة، جاذبة للمستثمر المحلي والأجنبي، تتنوع وتتكافأ فيها الفرص الاستثمارية، في ظل رقابة حصيفة حكيمة منصبّة على الجميع، وتعزيز كفاءة السوق وتطوره.* قسم التمويل في كلية العلوم الإدارية - جامعة الكويتAlthaqeb@cba.edu.kw