رواية «النجدي»... الكويت في رواية
الكتابة مغامرة! لذا لا يمكن أن يتيقّن أي كاتب، مهما كانت موهبته وإنجازه برصيده الروائي، من أنه سيكتب رواية وتكون مكتملة بعناصرها الروائية ومشوّقة، وأن القراء سيقبلون عليها. الأمر ذاته والخوف كانا يخامرانني وأنا أدفع برواية «النجدي» إلى النشر. فلقد تعرفت على النوخذة علي ناصر النجدي، عبر كتاب «أبناء السندباد» للبحار والمصور والكاتب الأسترالي «ألن فاليرز-Alan Villiers» وكان هذه الكتاب كفيلاً بأن أُغرم بشخصية النجدي: الإنسان، عاشق البحر، المغامر، الشجاع، مما أخذني إلى رحلة بحث قاربت السنة، للقراءة والاقتراب من كل ما يخص هذا النجدي، في أهله وأبنائه وأحفاده، وزملائه، ورحلاته البحرية بمغامراته، وإلى حين يوم اختفائه في البحر مساء الاثنين 19 فبراير 1979.يوم صدرت الرواية بطبعتها الأولى عام 2017، عن دار ذات السلاسل، وعلى غير عادته، همس بي المرحوم إسماعيل فهد إسماعيل: «هذه الرواية من أجمل ما كتبت». رحت مبتسماً أنظر إليه، فأضاف: «رواية الكويت». أفرحتني جملة إسماعيل، وراحت الرواية تأخذ حضورها لدى القارئ، وكان أن استمعت لجملة أخرى استوقفتني، يوم عُقدت ندوة عن الرواية في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، وقال الدكتور والمؤرخ يعقوب الغنيم، وزير التربية السابق: «هذه رواية تقدم بطلاً قومياً كويتياً، ولذا أناشد وزير التربية أن تكون جزءاً من المقرر المدرسي لطلبة الثانوي».
كُتِبت ونُشِرت أكثر من دراسة نقدية عن رواية «النجدي» في مختلف الأقطار العربية، ودارت الأرض دورتها، ووصلت النجدي إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في سنة صدورها، وها هي تنتقل إلى الضفة الأخرى عبر الترجمة، فلقد أبحر «النجدي» خلال الأيام الماضية إلى باريس، عاصمة النور، وذلك عبر صدور الترجمة الفرنسية للرواية عن دار «أكت سود-ACTES SUD»، التي تُعد واحدة من أهم دور النشر الفرنسية التي تهتم تاريخياً بالأدب العربي. كما زامن ذلك صدور كتاب يحوي رسالة ماجستير عن الرواية، تقدمت بها الأستاذة إشراق كرونة لجامعة السوربون. كتابان يصدران عن الكويت في باريس، وحفل توقيع في معرض «المغرب والمشرق»، ومحاضرة عن «النجدي والبحر»، ومحاضرة أخرى في جامعة «باريس8»، ولقاءات تلفزيونية وإذاعية، كل ذلك حول «الكويت والنجدي». فبقدر انتماء رواية «النجدي» للسيرة الذاتية، فإنها تنتمي بالقدر نفسه إلى تاريخ الكويت، بانتقاله من مجتمع بسيط يصادق البحر في خيره وأهواله، إلى مجتمع حديث بعد اكتشاف وتصدير البترول.يعيش العالم واحدة من أكثر لحظاته انكشافاً على الآخر، وواحدة من أكثر لحظاته تقبلاً للقوى الناعمة، قوى الفكر والكتابة الإبداعية والفن. وكذلك بالنسبة إلى الكويت، الدولة العربية الصغيرة، التي استطاعت عبر إصداراتها الأدبية أن تحفر لها مكانة عربية يصعب تجاوزها، إن على مستوى مجلة «العربي»، أو على مستوى إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، كسلسلة «عالم المعرفة»، وسلسلة «عالم الفكر»، وسلسلة «من المسرح العالمي» وإصدارات أخرى عرفت طريقها لفكر القارئ العربي، خلّفت وعياً كبيراً بمكانة الكويت الثقافية في محيطها الخليجي والعربي.تشكّل الرواية زاداً يومياً على مائدة الملتقى حول العالم، ولذا فإن وصول رواية كويتية، لأي كاتبة أو كاتب، إلى الضفة الأخرى، إلى قارئ آخر بثقافة ووعي مختلفين هي كسب للكويت، فالقارئ اليوم يتعرّف عبر الرواية على ما لا يمكن أن يصله عبر غيرها من شبكات التواصل الاجتماعية، التي تعتمد الخبر والجملة، بينما تتخذ الرواية من تفاصيل العيش الإنساني منحى لطريقها.«النجدي» بترجمتها الفرنسية، وبترجماتها الأخرى: الإنكليزية، والتركية، والصينية، إنما تقدم وجهاً حميمياً للكويت، وجها يتخذ من اللحظة الحاضرة منطلقاً لاستحضار وعيش لحظة الماضي. وتقدم البحر، جار الكويت الأحب بوصفه مُعيناً للكويت والكويتيين كمصدر رزق. لكنه البحر بسطوته وعظمته، ووحدهما السطوة والعظمة من سحرتا علي ناصر النجدي، وأخذتاه لحضنهما ولم تزالا.