الأحياء الموتى! *
بعضهم يموت ويدفن تحت التراب وتبقى روحه أو روحها تحرسنا وتنير أيامنا حتى أكثرها ظلمة، وآخرون يرحلون قبل أن يُدفنوا أو ربما ندفنهم نحن في مقابر القلوب، فلا يبقى منهم حتى الذكرى التي قد تكون في لحظة ما جميلة، ترفضهم عقولنا وتطردهم من زوايا حياتنا المضيئة وتدريجيا يختفون حتى صورهم تتبخر أو ربما تدفن هي الأخرى، لا يبقى لهم حتى أثر في التراب أو على حافة الزاوية من تاريخ حياتنا. تبقى تردد كيف لم أستطع أن أقرأهم (صح) أو ربما قرأتهم ولكني كنت لا أزال أفضل أن أتطلع لهم من عدسة الود والوفاء، وربما بعض حسن الظن بالآخرين، كان هو يقول أسيئوا الظن يا أبنائي بكل شخص يعبر في حياتكم حتى لو كان مرور العابرين، حتى يثبتوا أنهم يستحقون كل تلك المحبة، لم يدرك أي منا ذاك الدرس أو ربما بعضنا، وسقط آخرون منا ومن بعدنا في تلك البقعة من العتمة التي لا تُقرأ بالعين التي هي مغرفة الكلام وربما النوايا. ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الأحياء الموتى قد أساؤوا بفعل أو لفظ، بل يكفي أن يكتشف أحدنا ما في داخلهم وأن كل ذاك الود كان إما بهدف أو ربما لمصلحة أو قد يكون الطبع غلاباً، ولا يمكن لمن لا يعرف المعنى الأعمق للصداقة والجيرة والزمالة وحتى المعرفة المارة مرور الكرام، لا يمكن له أو لها أو لهم أن يستوعبوا لماذا ماتوا تدريجيا بداخلك فلهم لغتهم ولك لغتك، لهم نياتهم ولك المساحات البيضاء التي تسكنها من تحب أو من تصادق.
في البدء وعند الاعتراف بأنهم قد خرجوا من حياتك تتألم جداً، وتجد وكأنهم في لحظة قطعوا الأكسجين عن رئتيك المتعبتين المليئتين بثقوب الأثر، حتى أنك تقوم بتمزيق صورهم في شرايين عقلك قبل قلبك، لأننا نعرف كم أن ذاك القلب لا يحتمل إلا تخزين الصور وكثيرا من المحبة. تتساءل: لماذا يرحل بعضهم سريعا وآخرون استطاعوا أن يمارسوا الخداع أو المراوغة لكل هذا الزمان؟ تدرك أن طرقكم قد افترقت منذ سنين، وأن كلاً منكم قد رسم خطاً بيانياً لحياته، لا يتشابه مع خطوطك المتداخلة، ولكنك تبقى تحتفظ لهم أو ربما لتلك الأيام التي كانت ببعض الود، حتى الود لا يطول بعد أن تلتقوا بعد غياب سنين طويلة، حتى تصورت أن الصور قد بهتت في الذكرة ولم يبقَ منها سوى شيء مما تركته السنون، حينها تحتضنهم وكأنك قد تركتهم بالأمس وتفرح جدا أن بعضهم لا يزال يتذكرك رغم أنك لم تنسهم أبداً، تصطدم ببعض الملامح المتغيرة هي آثار العمر أو محاولات لمحوها أو إخفائها! بعد القبل أو السلامات والمصافحات الحارة والسؤال التقليدي المكرر "كيف أنت؟" أو"أين أصبحت؟"، تُفاجأ بكلمات السخرية المرافقة لحماسك لبعض القضايا التي تعتبرها أنت قناعات غير مرتبطة بأي مرحلة بل صالحة لكل المراحل والأزمان، يقولون "آه ما زلتِ تتحدثين عن فلسطين والاحتلال؟"، بعد أن تتريثي في الإجابة لتستوعبي الموقف، وحتى لا يتحول اللقاء الأول بعد سنين إلى لحظة الموت المتكررة لكثير من المعارف والأصدقاء، القدامى منهم والحديثون! تتمالكين نفسك وتبتسمين وتردين أنت أيضا ببروج كبياض الثلج على سفوح جبال الألب "تصوري أنني لا أزال سجينة ذاك الزمن وتلك الأيام!!". بضع لحظات وتنتقل هي وصورها ومن معها تحت التراب، تدفنيني أنت وأولئك، أنت وهو غير القادرين على دفن أي حشرة، يستوقفكم بعضهم يريدون سرقة حتى ما تبقى من لحظات الزمن الجميل وحتى ما تبقى ربما من قناعات، هم تخلصوا من تلك المرحلة منذ سنين عندما عبروا الجسر وأصبح ما بينكم بحر وجزر متباعدة، هم قرروا أن مثلك يفسد عليهم ما يريدون تعريفه "بالنضج" الذي تفتقدين. إذاً فما عليك سوى أن تقبلي صفة المتحجرة فقط لأنك قد رفضت الأوصاف الجديدة لتلك الاحتلالات والانتهاكات والظلم. بعضهم يبقى بعد الموت حتما وآخرون يموتون وهم أحياء ولا عزاء لك ولا لهم سوى أنك قد حاولتِ أن تبقي الود الذي لا يمكن أن يفرق الأحبة مهما اختلفت آراؤهم وأخلاقهم.* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية.