إن الحرب المستمرة في ليبيا، نموذج مصغر للمأساة التي تعصف بالعديد من بلدان الشرق الأوسط، وإذا لم تُحل في وقت قريب، فقد يؤدي الصراع إلى زعزعة الاستقرار في الدول المجاورة، لاسيما تونس ومصر، وسيؤدي ذلك إلى مزيد من موجات اللاجئين الفارين إلى أوروبا.

وتستمد الأزمة الليبية جذورها من حرب أهلية بين مختلف الجماعات التي يقسمها الولاء القبلي والإقليمي، وكذلك المعتقدات الإيديولوجية، ويتنافس الكل على السيطرة على عائدات النفط في البلاد. ومع ذلك، يوجد في الوقت الحالي جانبان أساسيان للنزاع: حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا والخاضعة لسيطرة الإسلاميين، والتي لا تزال تسيطر على العاصمة طرابلس؛ ومجلس النواب المتمركز في طبرق، والجيش الوطني الليبي، اللذان يخضعان لقيادة المشير المناهض للإسلاميين، خليفة حفتر. وبينما أصبحت معظم البلاد، الآن، تحت سيطرة حفتر الاستبدادي والقومي، إلا أن طرابلس لم تسقط بعد.

Ad

ووراء كل من هذه المعسكرات المتحاربة هناك قوى خارجية تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة، ففي حين تدعم تركيا وقطر حكومة الوفاق الوطني، تقدم مصر، وروسيا، والإمارات العربية المتحدة، الدعم لحفتر، وقد عزت التغطية الإعلامية الدولية للحرب هذا التدخل الخارجي إلى المنافسة- خاصة بين تركيا ومصر- على موارد النفط والغاز. ولدى مصر مشروع غاز يمكن أن يربط بينها وبين منشآت في إسرائيل، وقبرص، واليونان، لتزويد أوروبا، ولكن هذا الهدف يتعارض مباشرة مع هدف تركيا المتمثل بإنشاء منطقة بحرية خالصة مع ليبيا، وضمان انفرادها في السيطرة على موارد الطاقة الليبية.

ولكن المنافسة على الطاقة ليست القصة كلها، ولفهم الصراع في ليبيا بكامل جوانبه، يجب على المرء أن ينظر أيضًا في الروابط المعقدة بين الجغرافيا السياسية والأيديولوجية، إن فوز الإسلاميين في طرابلس لن يسمح لتركيا وقطر بتوسيع نفوذهما ليشمل دولة منتجة للنفط على البحر المتوسط فقط؛ بل سيمنحهما عمقًا استراتيجيًا، مما يعزز نفوذهما على دول أخرى لاسيما تونس، ومصر.

لهذا، تمَول قطر القسم الأعظم من الحرب، التي يخوضها الإسلاميون، ولكن في أواخر العام الماضي بدا أن حكومة الوفاق الوطني على وشك الهزيمة، مما أدى إلى تدخل تركيا نيابة عنها، وبدأت تركيا منذ ذلك الحين بإرسال أسلحة، وطائرات بدون طيار، وجنود، وحتى مقاتلين سوريين إلى الحرب للدفاع عن طرابلس.

وعلى الجانب الآخر من الانقسام لا ترغب مصر، والإمارات العربية المتحدة أن تقع دولة نفطية قادرة على إنتاج 2.5 مليون برميل يوميًا، في أيادي الإسلاميين المَدِينين لمنافسيهم الإقليميين، وإن انتصار حكومة الوفاق الوطني، من شأنه أن يحول ليبيا إلى معقل إسلامي، ورأس جسر لتقويض مصر، والرؤية المسيطرة للإمارات العربية المتحدة للمنطقة، ومن شأن حفتر أن ينشئ نظاما يروق لهما، وإذا كان هو المنتصر، يمكن حينئذ الاستفادة من موارد ليبيا النفطية، في أكبر معركة ضد البُعبع الإسلامي في جميع أنحاء المنطقة.

إن المثير للفضول أكثر هو دافع روسيا للانحياز إلى حفتر، ولكن يمكن تلخيصه في كلمة واحدة: الانتقام، وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أرسل مرتزقة للانضمام إلى القتال، فإن حفتر نفسه ليس مرشح الكرملين الأول لحكم ليبيا، إذ يريد بوتين تنصيب سيف الإسلام القذافي، نجل معمر القذافي، الذي حكم البلاد من عام 1969 إلى عام 2011. وبدعم من الموالين للنظام السابق انضم القذافي إلى صفوف حفتر، لكن الروس لا يثقون بحفتر، لأنهم يعتبرونه أحد عملاء المخابرات الأميركية، نظرًا لأنه عاش في السابق بصفته مواطنا أميركيا، في لانغلي، بولاية فرجينيا، وبجعل القذافي حاكم ليبيا القادم يأمل الكرملين أن يثبت نقطة للأميركيين والأوروبيين، الذين ساعدوا في الإطاحة بوالده، إذ يريد بوتين أن يثبت أنه هو من سيملي مستقبل ليبيا، واتخاذ القرارات في المنطقة؛ وإذا نجحت موسكو في ذلك فسيكون من المثير معرفة ما سيحدث لحفتر.

إن الوضع المعقد في ليبيا يقترب من السريالية، ولسوء الحظ لا يمكن قول الشيء نفسه عن المعاناة الحقيقية للشعب الليبي، العالق بين المجموعات المتنافسة، ومن جانبها، كانت الولايات المتحدة مهملة في مقاربتها للأزمة، التي تجاهلتها إلى حد كبير، على أمل أن تستعيد القوى الإقليمية الأخرى النظام. وفي الواقع، تلك القوى هي التي تزرع الفوضى، والولايات المتحدة وحدها، هي التي تملك القوة الدبلوماسية لإنهاء الصراع.

وإذا استمرت الحرب الأهلية في ليبيا فستنتقل آثارها إلى أجزاء أخرى من المنطقة، وسيفر المزيد من اللاجئين إلى أوروبا، خصوصا إذا تبين أن الصراع نذير للحروب الأهلية القادمة، ويمكن أن تصبح تونس، أو الجزائر، أو السودان، أو لبنان، المسرح القادم، الذي ستخوض فيه القوى الإقليمية، والدولية حروبا بالوكالة، وتتخيل أن تصبح القوة المهيمنة القادمة في العالم العربي.

* أستاذ دراسات الشرق الأدنى، ومدير معهد الدراسات عبر الإقليمية للشرق الأوسط المعاصر وشمال إفريقيا، وآسيا الوسطى بجامعة برينستون.

«برنارد هايكل»