نخبة «وول ستريت» لا تستطيع أن تحرق بيرني
لا ينبغي لأحد أن يستهين بطوفان الهيستريا الذي سيحاول ترامب والنخبة في وول ستريت إغراق ساندرز به، إذ يتهم ترامب المرشح الديمقراطي ساندرز بمحاولة تحويل الولايات المتحدة إلى فنزويلا، في حين أن التشبيه الواضح يجب أن يكون مع كندا أو الدنمارك.
إن التركيبة التي تتألف من عشق الذات والجهل والإفراط في التفاؤل التي تتسم بها النخبة في وول ستريت لهي أعجوبة تستحق المعاينة، فمن منطلق شعورهم بالقوة، واستمتاعهم بالإعفاءات الضريبية والمال السهل وأسواق الأسهم التي ارتفعت إلى عنان السماء، باتوا على يقين من أن كل شيء على خير ما يرام في أفضل عالَم ممكن على الإطلاق، ولابد أن يكون منتقدوهم حمقى أو شياطين.عندما ذكرت دعمي للمرشح الرئاسي الأميركي بيرني ساندرز في حضرتهم، استقبلوا الخبر بشهقات مسموعة، كما لو كنت استحضرت الشيطان، إنهم على يقين من أن ساندرز سيهزم حتما في الانتخابات، أو أنه حتى لو انتُـخِـب بطريقة ما، فإنه سيجلب انهيار الجمهورية، وهذه المشاعر ذاتها ملحوظة بدرجات متفاوتة حتى في المنافذ الإعلامية "الليبرالية" مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست.الواقع أن هذا الازدراء يشي بالكثير وهو مناف للعقل ولا يخلو من سَـخَـف، ففي أوروبا، كان ساندرز ينتمي إلى التيار السائد من الديمقراطيين الاجتماعيين، إنه يريد استعادة بعض اللياقة الأساسية للحياة الأميركية: الرعاية الصحية الشاملة الممولة من الحكومة؛ وأجور فوق معدل الفقر للعاملين بدوام كامل، إلى جانب المزايا الأساسية مثل إجازة رعاية الرضع وإجازة المرض المدفوعة الأجر؛ والتعليم الجامعي الذي لا يدفع البالغين الشباب إلى الاستدانة مدى الحياة؛ والانتخابات التي لا يستطيع أصحاب المليارات شراءها؛ والسياسة العامة التي يحددها الرأي العام لا الضغوط التي تمارسها الشركات (التي بلغت 3.47 مليارات دولار في الولايات المتحدة في عام 2019).
يدعم الرأي العام الأميركي كل هذه المواقف بأغلبية ضخمة، فالأميركيون يريدون من الحكومة أن تضمن الرعاية الصحية للجميع، ويريدون فرض ضرائب أعلى على الأثرياء، ويريدون الانتقال إلى الطاقة المتجددة، وهم يريدون فرض قيود على الأموال الضخمة في السياسة، وكل هذه الرغبات تعبر عنها مواقف ساندرز الرئيسة، وجميعها مألوفة وطبيعية في أوروبا. ورغم ذلك، مع كل انتصار أولي يحققه ساندرز، يُـبدي أهل النخبة في وول ستريت وخبراؤهم المفضلون حيرتهم البالغة إزاء الكيفية التي يتمكن بها "متطرف" مثل ساندرز من الفوز بالأصوات.تنبئنا مقابلة أجرتها فاينانشال تايمز مؤخرا مع لويد بلانكفين، الرئيس التنفيذي السابق لبنك غولدمان ساكس، بمدى الجهل الذي يخيم على وول ستريت، بلانكفين ملياردير يكسب عشرات الملايين من الدولارات كل عام، لكنه يزعم رغم ذلك أنه مجرد "شخص ميسور الحال" وليس ثريا، الأمر الأكثر غرابة هو أنه يعني ذلك حقا، وكما ترون، بلانكفيل ملياردير تتألف ثروته من رقم واحد منخفض في خانة الآحاد في عصر حيث يملك أكثر من 50 أميركيا ثروة صافية قدرها 10 مليارات دولار أو أكثر، وإن شعور المرء بمدى ثرائه يعتمد على المجموعة التي ينتمي إليها من النظراء.لكن النتيجة هي تجاهل النخبة (وإعلام النخبة) الصادِم لحياة معظم الأميركيين، إنهم إما لا يعرفون أو لا يبالون بأن عشرات الملايين من الأميركيين يفتقرون إلى تغطية الرعاية الصحية الأساسية أو أن النفقات الطبية تُـفـلِس نحو 500 ألف شخص كل عام، أو أن واحدة من كل خمس أسر أميركية ثروتها الصافية مجرد صِفر أو سالبة، وأن ما يقرب من 40% منها تناضل لتلبية الاحتياجات الأساسية.لا تكاد النخبة تنتبه أيضا إلى أن 44 مليون أميركي تثقل كواهلهم ديون الطلاب التي تبلغ في مجموعها 1.6 تريليون دولار، وهي ظاهرة غير معروفة في الدول المتقدمة الأخرى، وعلى الرغم من ارتفاع أسواق الأسهم إلى عنان السماء، مما زاد النخب ثراء، فإن معدلات الانتحار وغيرها من "حالات الموت يأسا" (مثل جرعات المواد الأفيونية الزائدة) ارتفعت أيضا إلى عنان السماء، مع استمرار الطبقة العاملة في التراجع والانزلاق إلى حالة من انعدام الأمان المالي والنفسي.يرجع أحد الأسباب وراء تغافل النخب عن هذه الحقائق الأساسية إلى أنهم لم يُـخـضَـعوا للمساءلة والحساب لفترة طويلة. كان الساسة الأميركيون من كلا الحزبين يخدمونهم بإخلاص على الأقل منذ أن تولى الرئيس رونالد ريغان منصبه في عام 1981 وأذن بقدوم أربعة عقود من التخفيضات الضريبية، وإضعاف النقابات، وغير ذلك من الامتيازات وأسباب البهجة لصالح أصحاب الثراء الفاحش، وتتجلى قوة العلاقة الدافئة بين وول ستريت وواشنطن بوضوح في صورة التقطت في عام 2008 عادت إلى الظهور القوي في وسائل الإعلام، حيث يمارس دونالد ترامب، ومايكل بلومبرغ، وبِيل كلنتون لعبة الغولف معا، إنها أسرة سعيدة كبيرة واحدة. الواقع أن الصداقة الحميمة بين كلينتون وأصحاب المليارات في وول ستريت تنبئنا بالكثير، إذ كان هذا هو النمط المعتاد بين الجمهوريين منذ بداية القرن العشرين، لكن الروابط الوثيقة بين وول ستريت والديمقراطيين أكثر حداثة، وبوصفه مرشحا للرئاسة في عام 1992، نَاوَر كلينتون للربط بين الحزب الديمقراطي وغولدمان ساكس من خلال رئيسه المشارك في ذلك الحين روبرت روبن، الذي أصبح في وقت لاحق وزيرا للخزانة في إدارة كلينتون.بدعم من وول ستريت، فاز كلينتون بالرئاسة، ومنذ ذلك الحين أصبح الحزبان مدينين لوول ستريت لتمويل الحملة الانتخابية، وسار باراك أوباما على خُـطى كلينتون في انتخابات عام 2008، وبمجرد توليه منصبه، بادر أوباما إلى توظيف معاوني روبين لتشكيل فريقه الاقتصادي.من المؤكد أن ما أنفقته نخبة وول ستريت على الحملة لم يذهب هباء منثورا، فقد قام كلينتون بإلغاء الضوابط التنظيمية التي كانت مفروضة على الأسواق المالية، مما عمل على تمكين صعود عمالقة مثل سيتي غروب (حيث أصبح روبن مديرا بعد مغادرته البيت الأبيض). كما ألغى كلينتون مدفوعات الضمان الاجتماعي للأمهات المنفردات الفقيرات، مما خلف تأثيرات شديدة الضرر على الأطفال الصِغار وعمل على رفع معدل السجن الجماعي للشباب الأميركيين من أصول إفريقية.ومن جانبه، أطلق أوباما يد المصرفيين الذين تسببوا في انهيار عام 2008، وقد تلقوا أموال الإنقاذ والدعوات لتناول العشاء في البيت الأبيض، بدلا من الذهاب إلى السجن كما يستحق كثيرون منهم.بغطرسة الملياردير الكبير يتصور عمدة مدينة نيويورك السابق مايكل بلومبرغ أنه قادر على شراء ترشيح الحزب الديمقراطي له بإنفاق مليار دولار من ثروته التي تبلغ 62 مليار دولار على إعلانات الحملة، ثم إلحاق الهزيمة بزميله الملياردير دونالد ترامب في نوفمبر. وهذه أيضا، في الأرجح، حالة من الجهل، فقد تضاءلت آفاق بلومبرغ بمجرد ظهوره في مناظرة مع ساندرز والمرشحين الديمقراطيين الآخرين، الذين ذَكَّروا المشاهدين بماضي بلومبرغ الجمهوري، وادعاءات بشأن بيئة عمل معادية للنساء في شركات بلومبرغ، فضلا عن دعمه لتكتيكات الشرطة القاسية ضد الأميركيين الشباب من أصول أفريقية ولاتينية.لا ينبغي لأحد أن يستهين بطوفان الهيستريا الذي سيحاول ترامب والنخبة في وول ستريت إغراق ساندرز به، إذ يتهم ترامب المرشح الديمقراطي ساندرز بمحاولة تحويل الولايات المتحدة إلى فنزويلا، في حين أن التشبيه الواضح يجب أن يكون مع كندا أو الدنمارك، وفي مناظرة نيفادا، وصف بلومبرغ صارخا دعم ساندرز لتمثيل العمال في مجالس إدارة الشركات، على غرار سياسة القرار المشترك في ألمانيا، بأنها "شيوعية".لكن الناخبين الأميركيين يسمعون شيئا مختلفا: الرعاية الصحية، والتعليم، والأجور اللائقة، والإجازات المرضية المدفوعة، والطاقة المتجددة، وإنهاء الإعفاءات الضريبية وإفلات أصحاب الثراء الفاحش من العقاب. كل هذا يبدو معقولا للغاية، بل هو الاتجاه السائد، عندما يتجاوز المرء عن خطاب وول ستريت، وهذا هو السبب وراء فوز ساندرز، وهو قادر على تحقيق الفوز مرة أخرى في نوفمبر.* أستاذ التنمية المستدامة وأستاذ السياسة الصحية والإدارة في جامعة كولومبيا، وهو مدير مركز كولومبيا للتنمية المستدامة وشبكة الأمم المتحدة لحلول التنمية المستدامة.*جيفري ساكس
الأميركيون يريدون من الحكومة أن تضمن الرعاية الصحية للجميع ويريدون فرض ضرائب أعلى على الأثرياء
النخبة لا تكاد تنتبه إلى أن 44 مليون أميركي تثقل كواهلهم ديون الطلاب التي تبلغ في مجموعها 1.6 تريليون دولار
النخبة لا تكاد تنتبه إلى أن 44 مليون أميركي تثقل كواهلهم ديون الطلاب التي تبلغ في مجموعها 1.6 تريليون دولار