يقر كل المعلِّقين وصُناع السياسة في شتى أرجاء الطيف السياسي بالولايات المتحدة، بوجود أزمة تواجه واشنطن فيما يتعلق بوضعها الدولي وسياستها الخارجية. وقد انتهت الحرب الباردة قبل ثلاثين عاماً، ونكأت الولايات المتحدة ما يعرف بجرح «الحرب على الإرهاب» قبل عشرين عاماً، وتتوقع الدول القوية خارج المظلة الأميركية أن تكون لها كلمتها في الأمور المتعلقة بالنظام الدولي، والدول المنافسة على الصعيد العسكري، مثل: الصين وروسيا، رغم عدم بلوغها المستوى الأميركي، فإنها تتمتع اليوم باليد العليا في مناطق نفوذها. وبعد فترة من التميز في الثروة والقوة العسكرية تتقدم الولايات المتحدة وسط نظام دولي تعجز فيه عن إملاء قواعد عالمية.وبدأت واشنطن بالتحول الدولي في نطاق سبق لها أن حفزته، لكنها لم تتمكَّن من السيطرة عليه على الإطلاق، وكانت الولايات المتحدة، ولفترة قصيرة أعقبت الحرب الباردة القوة العظمى القادرة على رسم مسارها بخطوات أحادية، ويبدو الآن من جديد أنها قوة عظمى، لكن مع نظيرات، وتظل الولايات المتحدة دولة مزدهرة وقوية ومقبولة في كثير من أنحاء العالم، لكنها لم تعد الدولة الوحيدة المزدهرة التي تجذب المهاجرين والمقلدين. وربما لا تزال تحتفظ بالمركز الأول بين نظيراتها، لكنها لم تعد الوحيدة في المعترك. ويفضي هذا التراجع في المستوى العالمي إلى فرصة للولايات المتحدة من أجل العودة إلى إنجازات ما بعد الحرب التي حققتها دول مماثلة، وخاصة ما يتعلق ببناء اقتصاد وشبكة سلامة اجتماعية لخدمة مواطنيها بأفضل صورة ممكنة.
المعسكرات المتميزة
وفي داخل الولايات المتحدة يقع الجدال حول تغيُّر موقع البلاد في العالم ضمن معسكرات متميزة، كما أن التزام الرئيس ترامب «بجعل أميركا عظيمة من جديد» يتطلب إعادة تأكيد تفوقها، إضافة إلى أن حروب الرئيس التجارية وتصعيده للأوضاع في الشرق الأوسط يعكس أحلام قوة أميركية جامحة وبعيدة عن القيود. ويعتقد الرئيس ترامب بأن على الولايات المتحدة الحصول على ما تستطيع نيله في العالم وعدم مشاطرة دول أخرى فيه، وهو ما دفع بالكثير من المراقبين إلى تصنيف ترامب في خانة الانعزالية الأميركية، رغم أنه لم يندفع نحو اعتماد سياسة عزلة خارجية.وفي المعسكر المقابل، هناك مَن يعتقد أن القوة الأميركية دخلت مرحلة هبوط وانحدار. ووفق رأيهم سوف ينكمش مركزها بصورة حتمية على المسرح الدولي. ومضى البعض إلى حد الترحيب بذلك الانكماش، مشيراً إلى أن هيمنة الولايات المتحدة أفضت فقط إلى الضرر، وجلبت المتاعب إلى المواطن الأميركي في نهاية المطاف. وتجادل هذه الشريحة في أن تقلص الدور الأميركي سوف يفضي إلى التوقف عن إلحاق الأذى بالعالم، حتى إذا لم يتم طرح بديل أفضل. لكن هؤلاء النقاد للهيمنة الأميركية يتجاهلون الثروة والجوانب الصحية والأمن الذي نشرته الولايات المتحدة في العالم.ويحاول الواقعيون وضع أنفسهم بين دعاة هيمنة أميركا وبين الشريحة التي تدعو إلى انكفاء أكبر، وهم يندفعون بحماس نحو اعتبار العنف سمة دائمة في العلاقات الدولية، بشكل أو بآخر. وفي النهاية الأقوى هو الذي يفوز، لكن ليست هناك وسيلة لمعرفة مَن هو الأكثر قوة. وفي وجهة النظر الواقعية يتعيَّن على الولايات المتحدة أن تستعد لمواجهة منافسة أشد حدة. وقد غالت واشنطن في تصرفاتها عندما كانت في ذروة قوتها خلال العقد الأول من القرن العشرين، كما تفعل الإمبراطوريات التي لا تواجه مقاومة، ويتعيَّن على الولايات المتحدة في الوقت الراهن العودة إلى وضع أكثر تواضعاً واعتدالاً في علاقاتها مع الدول المنافسة لها، مثل: روسيا والصين، وربما حتى الاتحاد الأوروبي.تطابق وجهات نظر الطرفين
ويمكن القول إن الجانبين في هذه القضية على حق. كما يوجد مزيد من القيود والصعوبات في وجه القوة الأميركية اليوم، بقدر يفوق ما كان عليه الحال قبل عشرين عاماً. ومن هذا المنطلق يتعيَّن على الولايات المتحدة التكيف مع هذه الوقائع في عالم متعدد الأقطاب، لكن فقدان التميز العالمي لا يعني بالضرورة صورة تراجع، بل هو حصيلة تطور دول أخرى، إضافة إلى أن تصاعد مجتمع الدول القوية يمكن أن يشكِّل تحدياً في مواجهته، لكنه لا يمثل تهديداً أو خطراً وشيكاً.ويعرض تاريخ القرن العشرين طائفة من الأمثلة عن إمبراطوريات ديناميكية دخلت في عصر متوسط مريح، أو تحوَّلت بشكل دراماتيكي بعد صدمة الحرب المدمرة. وبعد الحرب العالمية الثانية بدأت دول اشتهرت بقوتها العسكرية، مثل: اليابان والكثير من البلدان الأوروبية، باستثمار مواردها في جوانب ديمقراطية في الداخل، وإعادة ترتيب علاقاتها الدولية نحو طموحات أقل حدة في ميادين الأمن والازدهار. كما أن بعض الدول، مثل: فرنسا والمملكة المتحدة، تحوَّلت من البندقية إلى الزبدة بصورة طوعية، فيما تم إرغام الدول التي تكبَّدت الهزيمة، مثل: اليابان وألمانيا، على القيام بتلك الخطوة بالقوة. وقد تحوَّلت كل تلك الدول إلى العمل تحت المظلة الأمنية الأميركية، وقد أسهم ذلك في تمكين تلك الدول من إنفاق كميات أقل من أموال ميزانياتها الوطنية على أمور الدفاع.الأمن الجماعي اليوم
ولحُسن الحظ، فإن الأمن الجماعي في الوقت الراهن لا يعتمد على قوة عسكرية عملاقة واحدة ذات هيمنة عالمية، وفي وسع الدول الديمقراطية الدفاع عن نفسها بصورة كافية ضد الأخطار الخارجية عن طريق ترتيبات أمنية جماعية. ويذكر أن الولايات المتحدة تسيء فهم إرث فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية. كما أن استثمارها في التعافي الأمني والاقتصادي أسهم في تعزيز النمو بشرق آسيا وأوروبا، فيما جعل الولايات المتحدة الدولة الأكثر ثراء في العالم والمسيطرة على العملات الدولية وكل المؤسسات المالية الكبرى من دون استثناء.وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن خطة مارشال وحلف شمال الأطلسي ونشر قوات عسكرية طويلة الأجل في اليابان وكوريا الجنوبية لم تكن عمليات خيرية أميركية، بل استثمارات مجزية جداً، وحققت عوائد ضخمة في ميادين الأمن والثروة.النأي عن الحروب
وطوال معظم فترات القرن الماضي نأت دول ما بعد الإمبراطوريات عن الحروب، وتوجهت نحو مسارات الأمن والازدهار والعدالة لشعوبها. وربما لم تتمكَّن اليابان والاتحاد الأوروبي من مجاراة الولايات المتحدة في النمو الاقتصادي، ولا في توسع القوة العسكرية، لكن هذه الأطراف ليست ضعيفة ولا فقيرة، فهي غنية بميادين التقنية، وقادرة على الدفاع عن نفسها إذا تعرضت لهجوم، كما حققت لمواطنيها درجة من الأمان لم تشهدها الولايات المتحدة.ليس على الولايات المتحدة الابتعاد عن الدول الاخرى، ولا التخلي عن القوة العسكرية بصورة تامة. لكن الأفضل لها وللعالم يكمن في تحويل أولوياتها واستثماراتها بعيداً عن القوة العسكرية، وسوف يعني ذلك التحول التوقف عن التدخل في كل نزاع بالعالم، وقد تفقد واشنطن درجة من الهيمنة في القضايا الدولية، لكنها لا تستطيع ردع الأخطار في كل مكان ضد المصالح الأميركية ومصالح شركائها. وقد يكون من الأفضل للولايات المتحدة القبول بهذه الخطوة بشكل طوعي.وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الولايات المتحدة تعرضت للكثير من التحويل العميق في تاريخها، وهي تواجه هذا التحول اليوم. وبعد الحرب العالمية الثانية تمكَّن حلفاء واشنطن من وضع طرق لإنهاء نزاعات أشد عنفاً مما تواجهه الولايات المتحدة اليوم. كما أن الديمقراطية الاجتماعية في الدول الحليفة جلبت ما يعرف بالاستثمارات العميقة، وأبرزت الجوانب الجيدة للرأسمالية، وأسهمت في حل جذور عدم المساواة التي تبتلى بها الولايات المتحدة حتى يومنا هذا.سلبيات التميز الأميركي
الاعتقاد بالتميز الأميركي يمكن أن يحول دون مقارنة الولايات المتحدة مع دول أخرى، كما يشير إلى أنها لا تستطيع التعلم من الآخرين. لكن تميز الشعب الأميركي يتمثل فقط في تمتعه بتاريخه وثقافته، ولا شيء غير ذلك، والولايات المتحدة ليست خارج التاريخ، لكنها لا تستطيع أن تتحول في الداخل من دون تغيير طريقة عملها في العالم، ويتعيَّن عليها العودة إلى العمل ضمن المثل العليا لعام 1945 عندما تصدرت تشكيل هيئة الأمم المتحدة.*ثاناسيس كامبانيس