وحدك أنتِ توحدينهم! *
![خولة مطر](https://www.aljarida.com/uploads/authors/982_1671286347.jpg)
إحداهن تعاقب عليها رجال بوجوه ولغات وأسماء مختلفة، وأيضا من بلاد متعددة، حتى لم تعد تعرف أي منهم من هو أب أطفالها! هرب كل هؤلاء الرجال "المجاهدين" وتركوا سباياهم وأطفال الجهاد الأكبر خلفهم، عادت النساء إلى عائلاتهن ينتظرن بحرقة حضناً دافئاً افتقدنه، ولدهشتهن أوصدت الأبواب وطويت سجاجيد الفرح، قيل لهن إنكن تأتين بالعار على العائلة والقبيلة في حين عاد الرجال محمولين على الأكتاف!لسن جميعا ضحايا تلك الجماعات المتخلفة بل كثيرات منهن فقدن آباءهن أو أزواجهن وأصبحن معيلات لأسرهن، حيث تقبل أن تعمل الواحدة منهن في أي وظيفة وبأي مرتب وتحت أي ظروف مجحفة لتطعم أطفالها وتردد "غداً سيكبرون ويعيدون لي تلك الابتسامة التي شحت حتى تصورت أنها موجودة في الأفلام والروايات العاطفية فقط". تبدأ نهارها بنظرات صاحب العمل الذي يمر بعينيه على كل جسدها يقف عند كل تفصيل، تحس هي أنه يعريها من ملابسها رغم أنها لا تلبس إلا الملابس المعروفة لدى هذه المجتمعات بأنها "حشمة"، ولا يتورع عن مد يده محاولا ملامسة جزء من جسدها، تخرج في آخر يوم عمل طويل ومجهد ليلاقيها صاحب الميكروباص يطلب منها الصعود ليوصلها، وإن رفضت أخرج ورقة نقدية يعرضها عليها، تقول لميس أنا لست امرأة غير شريفة، ولكن "ما الشرف في نظرهم؟"، يتفقن جميعا على أن الزمن لم يكن هو الوحيد الذي أسقط بثقله وظلمه عليهن بل أسرهن، أمهات وآباء طردوهن من عباءة العائلة وجعل الواحدة منهن تعمل ليلا نهارا لتوفر بعض الخبز والزعتر وبعض التعليم، حتى المدارس أوصدت في وجوه صغارهن، فالعار الذي يصيب الأم والأخت والزوجة لا يلبث أن يصبح وصمة على جبين كل أطفالها. "مجتمع ظالم" رددت فاطمة ولم تستطع أن تحبس دموعها التي تدفقت كالنهر، تحولت كل أحلامها إلى أحد يحس بوجعها ويوفر ذاك الحضن الذي لا تزال تتمناه لها ولأطفالها. كثيرات هن اللاتي يشبهن أولئك النسوة في تلك الغرفة التي لا يزين جدرانها إلا تضاريس المياه التي تسربت لها على مر السنين ونخرت الرطوبة الحجر والبشر، وكأنه لم يتبق سوى الطبيعة والحيطان لتضيف إلى قسوة الزمن قسوة.كلما روت إحداهن قصتها امتلأت العيون المتحجرة بدمع يتحول إلى شلال، إحداهن فقط قالت إن تجربتها القاسية علمتها أن تكون قوية وأن تحارب كل تلك التقاليد البالية، تتدارك لتقول "ليست كل التقاليد والعادات سيئة"، ولكن تلك التي تعرضن لها، حتما لا يمكن أن يتخيل أحدنا أن الأعداء في المعارك والحروب هم حلفاء ضد النساء، متفقون على الاستمرار في تكريس ظلم انغرس في ذاكرتهن وسيبقى مع أطفالهن يحملنه معهن أينما رحلن، يا لظلمكم، يا لظلمنا. * ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية"