بعد ما يقرب من أربع سنوات من الانتقادات الحادة والتنديد بمسؤولي الاستخبارات الأميركية والمحللين الذين كشفوا عن تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016، يتصرف دونالد ترامب أخيرا بشكل كامل بما يمليه عليه جنون العظمة والاضطهاد من خلال تنفيذ عملية تطهير. ربما يأتي التخلص من كبار مسؤولي الأمن الوطني في الولايات المتحدة مؤخرا بمثابة الصدمة للأميركيين، لكنه لم يكن مفاجئا للروس، فعلى مدار عدة أشهر، كانت النكتة المتداولة في موسكو تقول "ما دام ترامب مضطرا إلى فصل كبار جواسيسه، فبوسعه أن يحصل على معلوماته الاستخباراتية مباشرة من المصدر: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين".

كان بين الذين أطاح بهم ترامب في الشهر المنصرم مدير الاستخبارات الوطنية بالإنابة الأدميرال جوزيف ماجواير، ونائبه، لكن عزل كبار المسؤولين ليس الجزء الأكثر أهمية في القصة، الأمر الأكثر أهمية هو أن ترامب يريد أن يبعث برسالة إلى عامة العاملين في مجتمع الاستخبارات، الذي دأب على تكذيب ادعاءاته التي لا أساس لها حول قضايا تتراوح بين برنامج كوريا الشمالية النووي وتغير المناخ. يريد ترامب إرهاب المشتغلين بمهنة الاستخبارات في الولايات المتحدة وحملهم على الخضوع، وقد ينجح في ذلك.

Ad

لا شك أن أحدث جولات ترامب في عزل المسؤولين مؤهلة لوصف "عملية تطهير"، كان اختياره المؤقت لبديل ماجواير، ريتشارد جرينيل، الذي كان سفير الولايات المتحدة إلى ألمانيا، والتملق الذليل لترامب، والرجل السيئ السمعة، الذي لا يتمتع بأي خبرة استخباراتية. الواقع أن جرينيل يسعده أيما سعادة أن يلعب لصالح جمهوره الذي يتألف من شخص واحد في المكتب البيضاوي. وقد أصدر أوامره بالفعل لأتباعه بالبدء في التحقيق في مؤامرات مزعومة بين مسؤولي الاستخبارات الذين كشفوا النقاب عن تدخل روسيا في الانتخابات، وفحص ملفات العاملين بحثا عن أولئك الذين ربما لا يقدمون فروض الولاء والطاعة لترامب بالقدر الكافي.

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لعام 2020، ليس من الصعب أن ندرك دوافع ترامب، ففي شهر ديسمبر، حرص مسؤولو الاستخبارات على تجنب القسم العام من إحاطتهم السنوية بشأن التهديدات أمام الكونغرس، بعد جلسات الاستماع التي جرت قبل عام عندما استفزوا غضب ترامب من خلال معارضته وتكذيبه في كل قضية رئيسة تتعلق بالأمن الوطني تقريبا. كانت الرسالة من تلك الواقعة واضحة: إذ يريد ترامب مجموعة تنفيذية تتألف من معينين خانعين يكممون وكالات الاستخبارات طوال موسم الانتخابات الرئاسية في عام 2020، وإذا قام جرينيل بواجبه واستكمل عملية التطهير، فإن مرشح ترامب الجديد لمنصب مدير الاستخبارات الوطنية سيصبح قادرا على الإبحار عبر عملية التأكيد في مجلس الشيوخ بابتسامة بريئة.

هذا المرشح هو ممثل الجمهوريين الأميركيين جون راتكليف، وهو عضو آخر شديد البراعة ضمن فريق مداهني ترامب. كانت الهجمات التي شنها راتكليف ضد المستشار الخاص روبرت ميولر خلال جلسات الاستماع في الكونغرس بشأن التحقيق الروسي هي التي دفعت ترامب إلى اختياره لوظيفة مدير الاستخبارات الوطنية في الصيف الماضي. لكن الكشف عن حقيقة مفادها أن راتكليف عمل على تضخيم سيرته الذاتية للتعويض عن افتقاره إلى الخبرة الاستخباراتية أفضى إلى نسف ترشيحه، حيث اعترف حتى بعض الجمهوريين في مجلس الشيوخ بأن الولاء لترامب ليس مؤهلا كافيا لشغل الوظيفة، والآن سيكون لزاما على مجلس الشيوخ أن يختار بين راتكليف وجرينيل.

الواقع أن تاريخ راتكليف من القوادة الوقحة يشير إلى أنه، مثله في ذلك كمثل جرينيل، سيعمل على تسييس الاستخبارات كلما طلب ترامب ذلك، تتمثل مهمة مجتمع الاستخبارات في تقديم الحقائق والتحليلات غير الحزبية إلى الرئيس، وكبار صناع السياسات، والقادة العسكريين، بصرف النظر عن تفضيلاتهم السياسية المعلنة، لكن ترامب بذل قدرا هائلا من الجهد لقمع أو إضعاف مصداقية المعلومات الاستخباراتية التي لا تروق له، ومن المرجح أن يفعل ذلك الآن دون ضابط أو رابط.

أطلق كل من الجمهوريين والديمقراطيين بالفعل العديد من الإنذارات بشأن المخاطر المترتبة على تدخل البيت الأبيض في أنشطة الاستخبارات الحرجة، ففي شهر يناير حَـذَّر آدم شيف، الرئيس الديمقراطي للجنة الاستخبارات في مجلس النواب، من أن إدارة ترامب تمارس الضغوط على وكالات الاستخبارات لحملها على حجب معلومات حول أوكرانيا عن إشراف الكونغرس، وفي مجلس الشيوخ، قوبلت إحاطة استخباراتية لشرح التهديد الوشيك الذي يفترض أنه برر عملية الاغتيال الموجهة ضد قائد قوة القدس الإيرانية قاسم سليماني في يناير بانتقادات من الحزبين حول ما بدا أشبه بوصف مضلل من قِبَل البيت الأبيض.

من المؤكد أن الرؤساء لديهم كل الحق في إعطاء وكالات الاستخبارات توجيهات جديدة وإقالة المسؤولين بسبب إخفاقات أو أخطاء، فبعد غزو خليج الخنازير الكارثي في عام 1961، قام الرئيس جون كينيدي بتنصيب شخص غريب على مجتمع الاستخبارات، جون ماكون، على رأس وكالة الاستخبارات المركزية، وبعد تورط مدير وكالة الاستخبارات المركزية وليام جيه. كيسي في فضيحة إيران كونترا، اختار الرئيس رونالد ريغان مدير مكتب التحقيقات الفدرالي السابق ويليام هـ. وبستر ليحل محله، ومع ذلك لم يُـقْـدِم أي رئيس أميركي، حتى مجيء ترامب، على تقديم حظوظه السياسية في الأهمية على أمن الولايات المتحدة على هذا النحو الصارخ من خلال تشويه سمعة الوكالات المسؤولة عن الدفاع عنها.

الواقع أن حتى الرئيس المطعون فيه أخلاقيا ريتشارد نيكسون لم يقترب من شن مثل هذه الحرب التي يشنها ترامب ضد الاستخبارات. تحت الضغوط التي فرضتها فضيحة واترجيت، قام نيكسون في فبراير من عام 1973 بتعيين جيمس ر. شليزنجر ليحل محل ريتشارد هيلمز مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية، لأن الأخير رفض التستر على الجريمة، وبمجرد وصوله، قام شليزنجر بتقليص حجم الوكالة، مما أجبر المئات من الضباط من ذوي الخبرة على الخروج وتسبب في زعزعة استقرار عامة الموظفين، لكن نيكسون لم يشكك قَط في ولاء الوكالة ولم يشوه عملها. علاوة على ذلك، كان شليزنجر، الذي شغل في وقت لاحق منصب وزير الدفاع، يحمل على الأقل المؤهلات اللازمة لشغل منصب رفيع في الأمن الوطني، على عكس جرينيل وراتكليف.

الواقع أن هجمات ترامب المتواصلة وإقدامه على تنصيب مسؤولين سياسيين على رأس مجتمع الاستخبارات خلفا بلا أدنى شك تأثيرا سلبيا على المعنويات، يتلقى جواسيس الولايات المتحدة ومحللو الاستخبارات التدريب اللازم لأداء وظائفهم بنزاهة وخوض المجازفات والمخاطر في الميدان، والغرض من عملهم هو توفير معلومات وتحليلات مستقلة وغير حزبية في خدمة أمن البلاد. ومن خلال تجاهل النتائج التي يتوصلون إليها، وتشويه عملهم، وتصيد أي علامة على عدم الولاء، عرضت أفعال ترامب هذه المهمة للخطر.

حتى الآن، لم يقل قادة مجتمع الاستخبارات الكثير عن الأضرار التي سببها ترامب، والتفسير الأكثر تلطفا وترفقا لصمتهم هو أنهم حريصون على حماية مهمتهم من خلال حني رؤوسهم، ربما يكون هذا صحيحا، ولكن عند مرحلة ما، يصبح من الصعب التمييز بين الصمت والتواطؤ، وخاصة عندما يكون الأشخاص الأكثر مسؤولية عن نجاح المهمة هم المستهدفون بعمليات التطهير والتحقيقات الزائفة. وعندما يُـطْـرَد من يستحقون أوسمة الشرف، فمن المؤكد أن شيئا ما انحرف عن مساره تماما.

* كِـنت هارنغتون

* كبير محللي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سابقا، وقد شغل منصب مسؤول الاستخبارات الوطنية لمنطقة شرق آسيا، ورئيس محطة في آسيا، ومدير الشؤون العامة في وكالة الاستخبارات المركزية.

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»