لسنوات مقبلة، سيظل التاسع من مارس الجاري محفوراً في الذاكرة باعتباره واحداً من أصعب الأيام التي مرت على المستثمرين في جميع أنحاء العالم، حيث وجد الكل نفسه فجأة في خضم أجواء تشبه تلك الخاصة بأزمة 2008 التي كانت الشاشات الحمراء من أبرز سماتها.

بمجرد قرع جرس افتتاح السوق أمس الأول شهدت أسعار النفط سقوطاً حراً فقدت خلاله ما يقرب من ثلث قيمتها، مسجلة أسوأ تراجع يومي لها منذ 1991، وذلك تزامناً مع دخول مؤشرات الأسهم العالمية معاً في سباق نحو القاع خسر فيه السوق السعودي بنهاية اليوم 531 نقطة، بينما فقد «داو جونز» الأميركي أكثر من ألفي نقطة.

Ad

كيف ولماذا حدث كل ذلك؟ بالأساس، توجد هناك حالة من القلق تسيطر على المشهد في الأسواق، خلال الأسابيع الأخيرة، بسبب التداعيات الحاصلة والمحتملة لفيروس كورونا الجديد، الذي أصاب الاقتصاد العالمي بحالة من الشلل، ولكن لسوء حظ السوق اجتمع عليه شران بعد أن انهارت أسعار النفط فجأة ودون مقدمات، وكأن مصيبة واحدة لا تكفي!

الروس يغادرون الطاولة

في السادس من مارس الجاري، اجتمع أعضاء منظمة «أوبك» مع روسيا في مقر المنظمة بالعاصمة النمساوية فيينا، لمناقشة ما يجب اتخاذه من إجراءات للتعامل مع التأثير الذي أحدثته أزمة فيروس كورونا الجديد على مستويات الطلب العالمي على النفط الخام.

ووفقاً لما ذكرته «نيويورك تايمز»، اقترحت المنظمة أن يقوم المشاركون بخفض جماعي لإنتاجهم من الخام بنحو مليون ونصف مليون برميل يومياً، أو ما يعادل 1.5% من المعروض العالمي لمعادلة تأثير الطلب المتراجع بسبب فيروس كورونا، ولكن رفض الروس الاقتراح. كما فشل الجانبان أيضاً في الاتفاق على تمديد التخفيضات الحالية البالغة نحو 2.1 مليون برميل يومياً.

«بداية من الأول من أبريل بإمكان الجميع الإنتاج بأي كمية تحلو له»... هذا ما قاله وزير الطاقة الروسي «ألكسندر نوفاك» للصحافيين، بينما كان يغادر مقر الاجتماع. وعلى الناحية الأخرى، رفضت دول «أوبك» أن تلتزم هي وحدها بخفض الإنتاج، وقررت إطلاق العنان لطاقاتها الإنتاجية بالتوازي مع خفض أسعار نفطها، وذلك وفقاً لما ذكرته «بلومبرغ».

وهكذا تحولت التكتيكات في السوق فجأة من محاولة دعم الأسعار، لتقليل حدة التأثيرات السلبية بسب تداعيات فيروس كورونا الجديد على الطلب العالمي على الخام، إلى قتال على الحصص السوقية يسعى فيه الجميع لحماية وتأمين حدوده في السوق الذي دخل بشكل غير متوقع، فيما يشبه حرب أسعار.

هل النفط الصخري هو المستهدف؟

بالتأكيد تدرك الأطراف الرئيسية في سوق النفط تبعات قراراتها الأخيرة، كما أنه من الواضح أن الكل يلعب على نقاط ضعف الآخر متسلحاً بنقاط قوته، ويراهن كذلك على امتلاكه القدرة الأكبر على تحمل الأضرار لأطول فترة ممكنة.

بالنظر إلى المحدد الأبرز في سوق النفط، وهو التكلفة، نجد أن السعودية تأتي في مقدمة من يمتلكون هذه الميزة بتكلفة لا تتعدى الـ2.8 دولار للبرميل، بينما تبلغ تكلفة إنتاج البرميل لدى كل من «إكسون» الأميركية و«روسنفت» الروسية 16 و20 دولاراً على التوالي.

وبناءً على التطورات التالية لاجتماع «أوبك» غير الناجح في نهاية الأسبوع الماضي، ارتفعت حدة القلق لدى المستثمرين تجاه إمكانية تدهور أرباح شركات الطاقة العالمية، وخصوصاً الأميركية منها، وهو ما أثار موجة من الفزع في الأسواق العالمية، في وقت يمر فيه الاقتصاد العالمي أصلاً بوضع شديد الحساسية، لتتحول شاشات البورصات العالمية بسرعة إلى اللون الأحمر القاتم.

يقول الخبراء إن روسيا اختارت عدم الاتفاق مع «أوبك» لأنها تريد خفض الأسعار، لكي تلحق أكبر قدر ممكن من الضرر بصناعة النفط الصخري الأميركية، والتي ترى موسكو أنها صعدت في السنوات الثلاث الأخيرة على حسابها في السوق، مستفيدة من إبقاء اتفاق «أوبك» للأسعار عند مستويات معقولة دون أن يضحي الأميركيون بأي شيء في المقابل.

في عام 2014 ازدهرت صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة، وبدأت منذ ذلك الحين في الاستحواذ على حصة متنامية من السوق العالمي. ففي غضون سبع سنوات فقط زاد الإنتاج الأميركي من النفط الصخري من نحو 400 ألف برميل يومياً إلى ما يزيد على أربعة ملايين برميل يومياً.

وتسبب هذا الارتفاع السريع والمذهل في قلب ديناميكية سوق النفط العالمي المستقرة منذ عقود رأساً على عقب، حيث تحولت الولايات المتحدة من مستورد صافٍ للنفط إلى مصدر صافٍ للنفط، وباتت تنافس كلا من السعودية وروسيا رأساً برأس. كما قلل التوسع الأميركي من آثار تخفيضات الإنتاج التي تحملتها «أوبك» وروسيا وحدهما على دعم الأسعار.

هل يتكرر سيناريو 2014؟

يرى الروس أن الصادرات النفطية للولايات المتحدة – التي أصبحت أكبر منتج للخام في العالم منذ عام 2018 – تأتي على حساب أسواقهم في أوروبا ومنطقة البحر المتوسط، بل وفي آسيا. ولذلك قررت موسكو أن الوقت قد حان لوضع حد لتوسع صناعة النفط الصخري، التي تصعد على أكتاف غيرها.

على خلفية التطورات الأخيرة التي شهدها جانب العرض في السوق، انهارت أسهم شركات النفط الصخري الأميركية خلال جلسة الأمس. فعلى سبيل المثال فقدت أسهم شركة «أوكسيدنتال بتروليوم» 53 في المئة من قيمتها، في حين تراجع سهم «تشيسبيك إنرجي» بنسبة 28 في المئة. وعلى صعيد الشركات الكبرى، تراجع سهم «إكسون موبيل» بنسبة 12 في المئة.

إذا استمر إغراق السوق بالنفط الرخيص كما هو الوضع الآن لفترة طويلة، فمن المرجح أن تتكبد صناعة النفط الصخري الأميركية خسائر فادحة قد تؤدي إلى دخول عدد كبير من شركاتها في دوامة الإفلاس وأنشطة الاندماج والاستحواذ، وخصوصاً مع وجود سندات بقيمة 18 مليار دولار مستحقة على شركات الطاقة الأميركية في الأشهر الثلاثة المقبلة.

نجت صناعة النفط الأميركية من أزمات مشابهة في عام 2008 و2014، وخرجت من الأزمة الأخيرة تحديداً أقوى بكثير من السابق. ولكن في أزمة 2014 لم تكن شركات النفط والغاز الأميركية مثقلة بكم هائل من الديون، كما هو الحال الآن، حيث تبلغ ديونها المستحقة خلال السنوات الأربع المقبلة فقط 86 مليار دولار.

أشارت «بلومبرغ» في تقرير نشرته مساء أمس الأول، إلى أن إدارة الرئيس الأميركي تدرس حالياً إمكانية إصدار حزم من المساعدات المالية لمنتجي النفط الأميركيين الذين تضرروا بشدة في الأسابيع الأخيرة، بسبب تداعيات فيروس كورونا، وخصوصاً بعد المجزرة التي شهدها سوق النفط يوم الاثنين، والتي هوت بأسعار الخام إلى مستويات تهدد استمرار عدد كبير من المنتجين.

باختصار، دخل سوق النفط فجأة ودون مقدمات في معركة «عض الأصابع»، وأصبح السؤال الآن: من يصرخ أولاً؟