استهل الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان العام الجديد بإطلاق خط أنابيب للغاز بقيمة تصل الى عدة مليارات من الدولارات بين بلديهما، ولكنهما يجهدان الآن لسحب قواتهما العسكرية بعيداً عن حافة الهاوية في النزاع السوري.وفي أعقاب مقتل 33 جندياً تركياً في غارة جوية خلال الفترة الأخيرة بمدينة إدلب الواقعة شمال غرب سورية، أطلقت تركيا حملة عسكرية جديدة تعرف باسم درع الربيع ضد قوات الحكومة السورية في تلك المنطقة، وخلال الأيام القليلة الماضية وجهت الطائرات المسيّرة والمدفعية الثقيلة التركية ضربات للقوات السورية في مدينة إدلب، في حين حقق الثوار الذين تدعمهم أنقرة مكاسب ضد قوات دمشق على الأرض.
ورداً على هذه التطورات الميدانية، عمدت البحرية الروسية الى إرسال فرقاطتين مزودتين بالصواريخ وسفينة إنزال ضخمة الى الساحل السوري، وإضافة الى ذلك حذرت وزارة الدفاع الروسية من أنها لن تتمكن بعد الآن من ضمان سلامة الطائرات التركية في الأجواء السورية.وقد اجتمع الرئيسان بوتين وإردوغان في الخامس من الشهر الجاري في موسكو، في محاولة لنزع فتيل الأزمة بمدينة إدلب والعمل على تفادي حرب بين البلدين، والسعي الى استعادة التقارب الذي شهدته العلاقات بين روسيا وتركيا منذ عام 2016 والذي أسفر عن تحسّن في العلاقات التجارية بشكل واضح.
الاجتماع الأكثر أهمية
وقد وصف مسعود حاكي كاشن، وهو بروفيسور بجامعة يديتب في اسطنبول وعضو مجلس الأمن والسياسة الخارجية الذي يوفر المشورة للرئيس إردوغان، اجتماع موسكو بين الرئيسين الروسي والتركي بأنه «الأكثر أهمية وحيوية في تاريخ البلدين»، وعلى الرغم من أنه أعرب عن ثقته بأن تلك القمة ستسفر عن تفاهم متبادل، فقد وصف الوضع الراهن بأنه مشحون بالخطر.وأضاف البروفيسور كاشن القول «أظن أن في وسع روسيا وتركيا التوصل الى صيغة من أجل تصفية المجموعات الإرهابية الراديكالية في مدينة إدلب وجمع الأسلحة الثقيلة، حتى نتجنب تفاقم النزاع ووصوله الى مناطق أخرى في سورية ومنطقة الشرق الأوسط، وأنا أرى أن السيناريو الأكثر أهمية وتهديدا للحياة يتمثّل في احتمال حدوث مواجهة بين القوات الروسية والتركية على الأرض، والذي يمكن أن يفضي الى فتح بوابات الجحيم في مدينة إدلب».ومن وجهة نظر عسكرية مجردة قال فيكتور موراخوفسكي، وهو رئيس تحرير مجلة الدفاع الروسية «آرسنال أوف ذي فاذرلاند» إن لدى موسكو وأنقرة في الوقت الراهن الآلية الضرورية من أجل منع الوضع الحالي في مدينة إدلب من التفاقم والخروج عن السيطرة. وأضاف أن «من الأهمية بمكان أن نفهم أن حجم مساحة المنطقة التي تشهد القتال صغيرة جداً، وهي حوالي مئة كيلومتر من الشمال الى الجنوب ونحو سبعين كيلومتراً من الشرق الى الغرب، ولدى الجانبين تقنية رصد ومراقبة وطرق قيادة لمتابعة الوضع في الوقت الحقيقي».لكنّه حذّر من أن عدم وجود حل سياسي جديد لأزمة مدينة إدلب، ستستمر التوترات في مستويات خطورة عالية.وكان المعلّق أليكسي مالاشنكو، وهو مدير بحوث لدى مركز تفكير حوار الحضارات في موسكو قد أعرب عن شكوكه في إمكان توصّل قمة بوتين- إردوغان الى تسوية حقيقية، وأبلغ ناشيونال إنترست أن المخاطر العالية بالنسبة الى الجانبين ستجعل من الصعب قبول أي طرف بالتنازل عن الأرض بسبب المضاعفات التي قد تسفر عنها مثل تلك الخطوة. وأضاف مالاشنكو قائلا: «ليس في وسع روسيا ولا تركيا تحمّل خسارة فعلية في هذا الوضع، واذا أراد الرئيس بوتين أو إردوغان التعرّض لخسارة، فإن ذلك سيمثّل صورة ضعف كما يمكن أن يقوض سلطتهما في الوطن.المطلب التركي المستحيل
كان أحد المطالب التي تقدمت بها تركيا هو ترك الوضع في سورية بعيداً عن تدخّل روسيا، وأن تقتصر المواجهة على معركة مع الرئيس بشار الأسد فقط، وأن تنأي موسكو عن الساحة، وكان من المستحيل أن توافق روسيا على مثل هذا المطلب تحت أي ظروف – من وجهة نظر مالاشنكوف – لأن التخلي عن الرئيس السوري يعني بالنسبة الى «الكرملين» اعترافاً بالهزيمة في الشرق الأوسط، وهو أمر لن تقبل موسكو به. ويرجع أصل هذه المواجهة الجديدة بين روسيا وتركيا الى مدينة إدلب التي تقع في الشمال الغربي من سورية، وتعتبر أيضاً آخر معقل للجماعات الإرهابية في ذلك البلد، وفي عام 2018 توصلت روسيا وتركيا الى اتفاقية تقضي بإقامة منطقة خفض تصعيد في مدينة إدلب وتجريدها من «الميليشيات الراديكالية» مثل هيئة تحرير الشام التي تنتمي الى تنظيم القاعدة، لكن سبق للجانبين أن تبادلا الاتهامات بانتهاك تلك الاتفاقية في أكثر من مناسبة. ثم انهارت الاتفاقية أخيراً في شهر ديسمبر عندما أطلق الرئيس السوري بشار الأسد حملة جديدة على مدينة إدلب بمساعدة من سلاح الجو الروسي، ومع استيلاء قوات حكومة دمشق على مناطق في ذلك الجزء من البلاد ازدادت هجرة المواطنين الذين اختاروا اللجوء الى تركيا هرباً من الأوضاع السيئة، وتقدر هيئة الأمم المتحدة عدد اللاجئين الذين هربوا من مدينة إدلب بأكثر من 900 ألف شخص منذ بداية حملة القوات السورية على تلك المدينة.الرد العسكري التركي
وتمثّل رد تركيا التي تستضيف أكثر من 3.6 ملايين لاجئ سوري على تلك التطورات في إرسال الآلاف من الجنود والآليات العسكرية الى مدينة إدلب في محاولة لخلق حالة من التوازن والردع، وعلى الرغم من ذلك وقعت عدة مناوشات بين القوات التركية والسورية في مدينة إدلب، وأسفرت عن مقتل 44 جندياً تركياً على الأقل، كما أنها دفعت أنقرة الى إرسال قواتها لخوض معركة عسكرية رئيسية داخل الأراضي السورية.ويقر مالاشنكو بأن رغبة الرئيس التركي في تصعيد الوضع في مدينة إدلب كانت مفاجأة بالنسبة لكبار الشخصيات في المؤسسة السياسية الروسية، وقال: «في موسكو أساء القادة تقدير ردة فعل تركيا، وقد ظنوا أنه ستحدث عدة معارك بطريقة أو بأخرى، لكنها ستستمر لعدة أيام فقط يتم بعدها التوصل الى اتفاق، لكن الرئيس اردوغان اختار بدلا من ذلك التمسك بموقف يستند الى مبدأ».من جهته، أوضح موراخوفسكي أن روسيا كانت تأمل في أن يظهر الرئيس التركي المزيد من المرونة إزاء أهداف موسكو في مدينة إدلب، بعد أن سعت روسيا لاستيعاب مخاوف أنقرة حول الميليشيات الكردية في شمال غرب سورية.وأضاف: «عندما أطلقت تركيا عملية ربيع السلام في شمال غرب سورية ضد الكرد في شهر أكتوبر الماضي، قدّمت روسيا تنازلات كبيرة، وقد وافقت – على سبيل المثال – على ضمان انسحاب القوات الكردية من تلك المنطقة، كما وافقت على تسيير دوريات مشتركة مع تركيا في المنطقة، على الرغم من أن ذلك قد يسفر عن قدر من المشاكل مع الشركاء السوريين، ولهذا السبب فإن مثل ردة الفعل التركية هذه على الهجوم على مدينة إدلب لم تكن متوقعة مطلقاً».وعلى أي حال، توقّع الكثير من المحللين دخول العلاقات الروسية – التركية ما يوصف بالعصر الذهبي وبدء تعاون اقتصادي، وسياسي، وعسكري يفضي الى تقوية العلاقات الثنائية.ديمتري ألكسندر سايمز *