على الرغم من انهيار الاقتصاد السوري نتيجة الحرب الدائرة هناك منذ سنوات، تحول اقتصاد البلد إلى اقتصاد حرب يستفيد منه ما يطلق عليهم ﺑ «تجار الحرب»، وهم أشخاص يستغلون الحرب والحصار وفقر الكثيرين ليراكموا ثروات طائلة. وينشط تجار الحرب هؤلاء عبر المعابر التي تربط المناطق المتخاصمة، والتي أصبحت المنفذ الوحيد للاجئين السوريين للعثور على الأمان.

وساهمت المنافع الاقتصادية، التي قد تدرها تلك المعابر، في إنشاء شبكة مصالح بين الأطراف المتنازعة، حيث باتت تشكل تلك المعابر مصدرا مالياً مهماً بالنسبة إلى فصائل المعارضة، خاصة بعد تراجع الدعم الخارجي، كما تستفيد القوات والميليشيات الموالية لنظام الأسد من تلك المعابر، وهو ما يضمن ولاءها.

Ad

وبينما تتزايد أعداد السوريين الهاربين من الموت تحت القصف العنيف المتواصل على منازلهم وأراضيهم من قبل قوات نظام الأسد وشركائه الروس، منتظرين بلا نهاية بمحاذاة الحدود التركية، أملاً بأن تسمح لهم السلطات التركية بالعبور إلى أراضيها حيث الأمان والسلامة، قامت هذه السلطات بافتتاح معبر واحد أمامهم فقط: معبر داخلي في منطقة الهبيط (إدلب) يسمح لهم بالانتقال إلى الأراضي الواقعة تحت سيطرة قوات النظام وحلفائه، ضمن الاتفاق القائم بين روسيا وتركيا.

وعلى الرغم من أن المسؤولين الأتراك قد صرحوا بأن تركيا لم تعد تراقب الحدود مع اليونان وبلغاريا، فإن مصير السوريين المحاصرين في شمال غرب سورية لا يزال قاتما.

وهكذا، يجد السوريون حالياً أنفسهم أمام خيارين، كلاهما قاتل: فإما البقاء تحت القصف في الأراضي التي تقع تحت سيطرة المعارضة، أو الانتقال الى الأراضي الواقعة تحت سيطرة النظام- وهو الخيار الذي يرفضه معظم النازحين خوفاً من قيام النظام بالانتقام منهم، بالتنكيل أو الاعتقال، كما فعل سابقاً في مناطق مُدنٍ أُخرى.

تجار الحرب

ظلت المعابر الحدودية مع تركيا مُغلقةً في وجه النازحين، ولا تفتح إلا في بعض الحالات الطبية الطارئة، أو للأغراض التجارية، أو لنقل البضائع من وإلى تركيا. إذ باتت هذه النشاطات التجارية تشكل مصدر دخل كبير لتجار الحرب من كافة الأطراف. فعلى سبيل المثال: يُسمح لبعض السوريين، من أقارب قيادات الفصائل العسكرية الموجودة في الشمال السوري، باستيراد شحنات من البضائع الأساسية وإدخالها «ترانزيت» (أي دون دفع ضرائب، والاكتفاء برسوم رمزية) إلى سورية. وغالباً ما يتم إدخال هذه البضائع عبر المعابر الداخلية من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، أو تلك الخاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام.

وتشكل عوائد هذه التجارة السوداء أحد الأسباب الأساسية وراء الصراع المستمر للسيطرة على المعابر الحدودية، خاصة معبر «باب السلامة» في إعزاز بريف حلب، ومعبر «جرابلس»، ومعبر» تل» أبيض في الرقة.

وهناك أيضا معبر «باب الهوى»، الذي يقع تحت سيطرة ما يسمى بحكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، التي بحسب مصادر موثوقة، تعقد صفقات سرية مع النظام السوري لتهريب الكثير من البضائع الأساسية مثل السكر والطحين والأدوية، القادمة أساساً من تركيا. ويعادل مدخول هذه العملية في باب الهوى، بحسب المصادر ذاتها، ما تجنيه المعابر السابقة مجتمعة، نظراً لكمية البضائع المستوردة وقدرة الأطراف المختلفة -السلطات التركية وهيئة تحرير الشام والميليشيات التابعة لنظام الأسد- على تأمين المعابر والطرق.

دخل يومي

وبحسب تقديرات المصادر المحلية ذات الصلة وبعض الموظفين العاملين في تلك المعابر، تحقق المعابر التي تقع تحت رعاية الدولة التركية والحكومة المؤقتة دخلا يومياً يقارب المليون ليرة تركية (100 ألف دولار)، تودع مباشرة في «بنك زراعات» التركي في حساب باسم رئيس الحكومة السورية المؤقتة. وتقتصر مهمة رئيس الحكومة في اتباع الإرشادات التركية وتوقيع أذونات وسندات الصرف لمصلحة المجالس المحلية في مناطق المعارضة، التي خضعت للنفوذ التركي، عقب عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام. كما يقوم «الرئيس» أيضاً بصرف تعويضات الفصائل المنضوية مؤخراً تحت عباءة ما يسمى بـ «الجيش الوطني».

وفى حين تحصل تركيا على نصيب الأسد من واردات تلك المعابر، تحصل الحكومة السورية المؤقتة فقط ما يبلغ 500 ألف ليرة تركية شهرياً فقط من دخول المعابر، أي ما يعادل 2 في المئة من ذاك الدخل، على الرغم من أن التفاهم القائم بين الحكومة التركية والحكومة السورية المؤقتة ينص على تقديم 30 في المئة من دخول المعابر إلى الحكومة المؤقتة. ولكي تصحح هذا الوضع، دخلت الحكومة السورية المؤقتة الجديدة بقيادة عبدالرحمن مصطفى، بمباحثات جديدة مع الحكومة التركية حول واردات المعابر أفضت إلى اتفاق جديد يتم وفقه تخصيص 15 في المئة من الدخول لمصلحة الحكومة المؤقتة. لكن، وعلى الرغم من مرور أكثر من شهرين على هذا الاتفاق، لم تتجاوز عائدات الحكومة المؤقتة من دخل المعابر أكثر من 750 ألف ليرة تركية، وهو أقل بكثير من الـ 15 في المئة المتفق عليها، وهذا يعرقل قدرة الحكومة في التعامل بشكل فعال مع أزمة اللاجئين والنازحين. وتبقى الكرة في هذا الخصوص في ملعب القوى الكبرى والمجتمع الدولي المنوط بهما توفير المساعدات المالية وغيرها، لأكثر من مليون مواطن محاصرين هناك.

ما الحل؟

يبدو أن الحل لأزمة المعابر واحتكارها من قبل أفراد يجب أن يبدأ بالضغط على الحكومة التركية، لتعمل على تفعيل دور الحكومة السورية المؤقتة بشكل حقيقي كحكومة تكنوقراط مستقلة تتولى وزاراتها المعنية الإدارة والإشراف على أعمال المعابر والمجالس المحلية في الداخل السوري، وأن تدعم الولايات المتحدة الأميركية الحكومة السورية المؤقتة بالخبراء والدراسات وتدريب طواقمها التي تعمل في تلك المعابر.

وفى حين قد تطرح بعض الأسئلة حول كيفية استجابة أوروبا لهذه الأزمة الإنسانية الكبرى، لا ينبغي التغاضي عن تجار الحرب في سورية. وفي ظل ذلك، لا يزال السوريون يواجهون واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية منذ بداية الحرب، إذ إنهم محاصرون، بطريقة أو بأخرى.

عشتار الشامي*