رياح وأوتاد: القول الميسور في تعديل الدستور... ورحمك الله يا أبا عيسى
«للأمير حق اقتراح القوانين»، (مادة 65 من الدستور)، كما أن «له حق اقتراح تنقيح الدستور» (مادة 174)، لذلك فإن أي مشاورات يقوم بها الأمير أو تشكيل اللجان ممن يراهم من الشعب لإبداء الرأي في هذين الموضوعين هو أمر بدهي، وهو من الحقوق المكفولة للأمير ولأي عضو من أعضاء مجلس الأمة.ولكن السؤال الأهم: هل نحن بحاجة إلى تعديل الدستور؟ يرى المؤيدون أنه قد مضت سنوات طويلة على وضع الدستور، نمت البلاد فيها بشكل كبير وزاد عدد الشعب والوزارات والمؤسسات الحكومية، وظهرت مشكلات كثيرة في العلاقة بين المجلس والحكومة أدت إلى عدم الاستقرار السياسي والتشريعي، كما لا تملك الحكومة الأغلبية في البرلمان أسوة بالحكومات البرلمانية، وانعكس ذلك على البرامج والتنمية، كما يرى بعض المطالبين بالتعديل الأخذ بنظام المجلسين لأن النظام الدستوري الحالي، وهو نظام وسط بين النظامين الرئاسي والبرلماني، لم يعد يجاري الزمن ولا يمكنه الاستمرار اليوم.
وأرى شخصياً أن الدستور الكويتي لا يحتاج إلى التعديل حالياً، وذلك للأسباب التالية: • أن الدستور الكويتي تم وضعه بالتوافق والتراضي بين الشعب والحكم في إجماع وفلتة تاريخية يصعب أو يستحيل أن يتحقق مثلها الآن، خصوصاً مع اختلاف وتضارب مصالح الأطراف المعنية ومطالبات كل طرف والتي تبتعد كثيراً عن مطالبات الطرف الآخر.لذلك فشلت التعديلات التي قدمت من قبل في مجلس الأمة رغم موافقة معظم أعضاء المجلس عليها (مثل تعديل المادة الثانية)، كما فشلت التعديلات التي قدمتها الحكومة في مجلس 1981 على إثر تشكيل لجنة النظر في تنقيح الدستور عام 1980، وكانت تتناول تعديلات جذرية تسلب قوة المجلس في تشريع القوانين وفي الاستجواب وطرح الثقة في الوزراء، وأيضاً فشلت التعديلات التي طرحتها المعارضة في المظاهرات عام 2011 وكانت قد طالبت بحكومة برلمانية منتخبة.لذلك فإن أي مطالبة بالتعديل الآن هي قفزة إلى المجهول، وقد تؤدي إلى أزمات نحن في غنى عنها.• أما المطالبة بأن يكون في الكويت نظام المجلسين أسوة بمعظم الدول الديمقراطية، فلم يغب هذا عن واضعي الدستور، فأدخلوا المعينين وهم الوزراء ليكونوا أعضاء في مجلس الأمة، فبذلك دمجوا المجلسين في مجلس واحد ليتحقق الهدف، وهو الاعتراض على القوانين وطلب إعادة النظر الذي تقوم به مجالس الشيوخ أو اللوردات أو الأعيان حسب أنظمة تلك الدول في الصلاحيات التي يملكها مجلس الوزراء في المجلس الواحد.إذاً، هذا التعديل لا داعي له لأنه متحقق في الدستور الحالي.• كما أن جميع العيوب التي يوردها المطالبون بالتعديل هي عيوب تتعلق بالفهم والممارسة الدستورية وليس في الدستور نفسه، أي أنها تتعلق بالإدارة والتعيينات والصلاحيات الأخرى التي كفلها الدستور لصاحب السمو الأمير وللحكومة، مثل تشكيل الحكومة من قبل الأمير وفق ما يراه، وتأخذ الحكومة الثقة من الأمير لا المجلس، وحق الأمير في إقالة الحكومة أو لأي وزير فيها، وحقه في حل مجلس الأمة بمرسوم، وحقه في الاعتراض على القوانين التي يوافق عليها المجلس وردها بمرسوم لطلب إعادة التصويت بأغلبية خاصة، وهي صلاحيات هائلة، أما الحكومة فهي حسب الدستور المهيمنة على مصالح الدولة، وهي التي ترسم السياسة العامة، وتشرف على تنفيذها، وكل التعيينات الحكومية بيدها، وكل الميزانية العامة بيدها أيضاً، بالإضافة إلى كل المعلومات والبيانات والصلاحيات التي تمكن الحكومة من النهوض بالبلاد وتحقيق أهداف التنمية، وهي أيضاً صلاحيات كبيرة ومهمة، لذلك فإن التقصير في استخدام هذه الصلاحيات بشكلٍ أمثل هو تقصير من الحكومة لا الدستور. وعلى سبيل المثال لم يشترط الدستور أن يكون منصب رئيس الوزراء أو أي وزارة أخرى محصوراً بأفراد أسرة البيت الحاكم، وعلى ذلك يكون التعيين مفتوحاً لمن يراه الأمير محققاً للمصلحة العامة ولأهداف البلاد، كما لم يشترط الدستور عدداً معيناً للوزراء المعينين من داخل مجلس الأمة إنما نصت المذكرة التفسيرية على التوسع قدر المستطاع في التعيين من أعضاء المجلس، وهذا متروك لاختيار رئيس الوزراء، إذ عليه أن يختار القوي الأمين الذي يستطيع بالتعاون معه تحقيق أهداف الحكومة والتصدي للفساد ووقف الهدر والنهوض بالتعليم وإيجاد مصادر بديلة للدخل، وإقناع المجلس بتحقيق مستقبل أفضل للأجيال القادمة.لذلك فإن الفشل الذي رافق أعمال كثير من الحكومات هو، كما ذكرت، فشل في استخدام الصلاحيات التي كفلها الدستور، وليس في الدستور نفسه، ولو قامت الحكومة بوضع مساطر جامعة مانعة لا استثناءات فيها للتعيين والترقية والمناصب القيادية واستغلال الأراضي وغيرها من منافذ الواسطة والمحسوبية لارتاحت وتحسن الأداء وتحصنت الإدارة.وكذلك يمكن القول إن كثيراً من أحكام ومبادئ الدستور المتقدمة غير مطبقة حالياً، والمطلوب هو التوسع بتطبيق الدستور بحذافيره لا تغييره.• أما القول إن الحكومة لا تملك الأغلبية اللازمة في المجلس لتمرير قوانينها وبرامجها فهذا مردود عليه أيضاً من أحكام الدستور الذي نص على أن «نظام الحكم وسط بين الرئاسي والبرلماني مع ميل أكبر نحو النظام البرلماني»، وكما هو معروف فإن الحكومة في النظام البرلماني تملك الأغلبية اللازمة في البرلمان، وتسقط على الفور إذا فقدت هذه الأغلبية.ولا يوجد في الدستور ما يمنع رئيس الوزراء من تشكيل الحكومة، بحيث يكون لها أغلبية في البرلمان، حيث نص كما ذكرت أعلاه على الميل إلى النظام البرلماني وعلى التوسع في تعيين الوزراء من مجلس الأمة، وهذا متروك لحسن اختيار رئيس الوزراء بالتعاون مع الكتل البرلمانية وأعضاء المجلس، أي بإشراكهم في الاختيار وفق برنامج يضعه رئيس الوزراء، ويعرضه على النواب للخروج ببرنامج مشترك ووزراء متفق عليهم من داخل المجلس ومن خارجه، فتتحقق بذلك الأغلبية المتفقة مع برنامج الحكومة، ويتحقق بذلك الاستقرار، وقد مرت بنا تجربتان مشابهتان لهذا المنحى، وكانت الأولى في مجلس 1992 حيث شارك (بعد مشاورات مكثفة) في الحكومة ستة وزراء من المجلس ثم أربعة في تعديل تم بعد ذلك، وكانت الثانية في حكومة 2001 حيث شارك في الحكومة أربعة من المجلس يمثلون كتلا مختلفة، وتمكن المجلسان من إكمال مدتهما، ولم يكمل أي مجلس غيرهما المدة منذ التحرير حتى الآن، وكانت تلك تجربة مهمة وددت لو أنها استمرت ونضجت لأمكن الآن تطويرها ولأمكن تحقق الاستقرار الحكومي والمجلسي.وهذا الأسلوب في تحقيق الأغلبية البرلمانية للحكومة يتطلب الأخذ ببعض الاقتراحات المجلسية وإدخالها في برنامج الحكومة حتى تتحقق الشعبية لهذا البرنامج، وهذا المنحى هو الأصح والأسلم من أسلوب المعاملات وتنفيذ رغبات النواب وتدخلهم في الأعمال الحكومية الذي دمر الأداء الحكومي في بعض الأحيان.• من الملاحظ أن معظم المشكلات التي برزت في الآونة الأخيرة والتي يتذرع بها المؤيدون للتعديل نشأت بسبب قانون الانتخاب والدوائر الخمس بشكل أساسي، فرغم حسن نوايا من طالب بتقسيم الكويت إلى خمس دوائر فإن عيوبا كثيرة تبينت بعد تطبيقه بسبب حجم واتساع الدائرة الواحدة من هذه الدوائر الخمس، حيث شملت مناطق عديدة مترامية الأطراف وتعزز فيها الانتماء القبلي والطائفي والفئوي وساد فيها الطرح الشعبوي، وغاب الحوار الفكري بين المرشح والناخب إلا القليل والنادر، وشاعت وكبرت الإشاعات، وعظم تأثير وسائل التواصل المدفوعة، وعلى عكس الآمال العريضة من هذا النظام لم يتوقف شراء ونقل الأصوات، وذكر الأستاذ صلاح الجاسم في تقرير له في الشهر الماضي أن حركة نقل الأصوات تمت بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الكويت.إذا لا بد من العودة إلى الدوائر العشر أو حتى إلى الدوائر الخمس والعشرين بعد الدراسة طبعاً، كما لابد على الحكومة والمجلس والجماعات السياسية من العمل على مراقبة تنفيذ القانون، بحيث يكون السكن الفعلي هو محل الانتخاب، ومقارنة ذلك بالبطاقة المدنية وفاتورة الكهرباء ومدارس الأبناء، وأما الرشوة الانتخابية فهي مجرمة واكتشافها وتقديمها للعدالة يعيدنا الى الدور المطلوب من الحكومة وهي المهيمن على مصالح الدولة كما أسلفنا.• إن كثيراً من العيوب التي يطرحها المطالبون بتغيير الدستور يمكن التصدي لها عن طريق وضع قانون القيم البرلمانية الذي يمنع تدخل النواب في عمل السلطتين القضائية والتنفيذية، ويمنع تضارب المصالح، ويجرم هدايا النواب وغيرها من السلوكيات التي شوهت الممارسة البرلمانية، بالإضافة إلى قانون التكاليف الانتخابية الذي يراقب صرف المرشحين على الانتخابات، وكلها قوانين طالب بها الدستور ومذكرته التفسيرية.• بعد هذه الخلاصة لهذا الموضوع المهم وبعد تجربة امتدت إلى ربع قرن في المجلس والحكومة أستطيع القول إن الحل للمشكلات التي طفت على السطح مؤخراً ليس في تعديل الدستور حالياً، إنما في تطبيقه بأمانة، وسن القوانين الإصلاحية المتعلقة به، وهذا يحتاج إلى إرادة حكومية جادة ومساهمة فعالة تقوم بها الجماعات السياسية مع وعي كبير من الناخبين ونظرة أمينة إلى المستقبل.• فقدت الدعوة السلفية قبل أيام رجلاً من خيرة أبنائها، وهو الأخ الكريم سليم عيسى السليم، رحمه الله، الذي عرفته منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، وكان حقاً نعم الأخ الداعية لدينه والمتمسك بالتعاليم والقيم الإسلامية والمحب لوطنه والحريص على استقراره والمتصدي للفتن والمحب لإخوانه وأصدقائه، والذي لم يتوانَ قط عن صلتهم وبرهم حتى خلال سنوات مرضه الأخير.رحمك الله يا أخي الحبيب وأسكنك الفردوس الأعلى وألحقنا بك بإحسان في جنة الرحمن.