تحول المشهد إلى فيلم رعب طويل أو حتى واحد من أفلام الخيال العلمي، وشطح الخيال لدى الكثيرين، وتسابق البعض لوضع مشاهد قديمة من أحداث لا تمتّ بصورة إلى هذا الفيروس الذي ساوى بين جميع الدول والمجتمعات تلك المتطورة والنامية، الديمقراطية والتي لا تزال ترزح تحت حكم الفرد الواحد، ولم يفرق أيضا بين الجنسين فتساوى الرجال والنساء، ولا حتى بين الأديان والطوائف، من ميلانو إلى قُم، ومن ولاية واشنطن الأميركية إلى مدريد التي أغلقت على نفسها، حيث أصبحت المواجهة الأكثر فعالية لمثل هذا الفيروس هي «العزلة الاجتماعية»، ومنها عزل المدن وإغلاق الدول بمطاراتها ومعابرها. كل يقول للآخر «الله يحميكم»، إلا أولئك الذين ما زالوا يعيشون شيئاً من الحقد ونكران المواطنة، وطفح كل سواد نفوسهم من عنصرية على السطح، فلوثوا شواطئ ذاك البحر من التناغم والتلاحم الاجتماعي الذي ساد مجتمعاتنا مع إخفاقاته وسلبياته، ولكن لم يحصل في تاريخنا الحديث أن تفرقت المجتمعات، ليس عندنا فقط ولكن حتى في أوروبا طفحت مجاري العنصرية فيها.
الأرقام تتغير بالدقائق من هنا وهناك، هي المرة الأولى التي لا تكون فيها أخبارنا مادة دسمة لنشرات الأخبار العالمية والمحلية، كورونا ذاك الفيروس الصغير تغلب على أخبار النزاعات والحروب، والموت المجاني هو المتربع على العرش ومادة الرعب الأولى، بعضهم في تلك المدن «المتحضرة» لم يتحمل نقص المواد في الأسواق حتى أفرغت من أحشائها، ربما هو درس لنا جميعا، ربما لهم ليعرفوا معنى الجوع والعوز وقلة الحيلة أو حتى أن تحاصر في بلادك بالجيوش والسفن الحربية والطائرات المتطورة أو حتى بلقمة عيشك. طبعا «اشتغلت» عقول أصحاب نظريات المؤامرة، ولكن الأهم هو ما كتبه المختصون والخبراء في الاقتصاد والسياسة ليرسموا صورة قاتمة لوضع الاقتصاد عالميا لا في الدول «المتعثرة» فقط! «ستغليتس» وهو من أهم من كتب عن العولمة، قال وكمن يذكر الجميع بأنه قد كتب الكثير من الأبحاث عن فشل العولمة وربما النظام الاقتصادي الرأسمالي، وقبل أن تكثر الاتهامات بأن مثل هذا التحليل يعيد «نوستالجيا» النظام الاشتراكي، فهذا ليس المقصود أبداً. الكثيرون كتبوا عن الحاجة إلى التفكير في نظام اقتصادي أو هو ربما عقد اجتماعي– اقتصادي لا يغفل الشرائح الواسعة في أي مجتمع، ولا يزيد من العوز والفقر في حين قلة تحكم العالم اقتصاديا لتخلق طبقة جديدة فوق البرجوازية التي تتوحد على اختلاف عرقها ودينها ولونها وجنسها.ما علاقة النظام الاقتصادي بكورونا؟ هو التوحش الذي ساد العالم، هو الكسب على حساب البشر والطبيعة حتى انتفضت تلك الطبيعة كما ثارت الشعوب قبلها، هنا الطبيعة بتفاصيلها تنتقم ممن أساء إليها وإلى كل المخلوقات وربما الطبيعة أكثر عدالة حيث ساوت بين الرؤساء والمشاهير وصناع القرار مع عامة الشعب أو الشعوب. هي المرة الأولى التي يستطيع أن يقول فيها الفرد لرئيسه أو حاكم البلاد «هل ترى الآن ما معنى أن تقع في خانة العجز، حيث لا يستطيع السلطان والجاه والمال إنقاذك من ذاك الفيروس الذي يقول العلماء الصينيون إنه يفتك بالبشر بالمئات والآلاف وقد يطور نفسه إلى ما هو أكثر فتكا وقدرة على مقاومة أي لقاح».وفي حين وجهت أصابع الاتهام في المراحل الأولى إلى الصين وإيران ما لبث الفيروس أن ظهر لهم في عاصمة الأناقة والأزياء وكل ما تحب أن تقتنيه تلك الشريحة نفسها التي ظهرت كالفيروسات هي الأخرى في ميلانو، حتى جاءت الصور لمدينة أشباح وأوصدت المطارات في وجه القادمين منها، وما لبثت أن تبعتها مدن وعواصم دول أوروبية وأميركية. كورونا ليس فيروس عالم ثالث إذاً، بل هو عابر للقارات والدول والطبقات والأجناس، هو الأكثر عدالة في توزيع الموت والألم، وفي ذلك عدالة أيضا أليس كذلك؟ فلا ظلم في المساواة في الموت.* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
كورونا أكثر عدالة منكم! *
16-03-2020