قبل الدخول في صلب الموضوع، يحتاح الحديث الى شيء من التمهيد والتعريف بصاحبه، فهذا جزء من الملف المطروح.الكتاب الذي نحن بصدده، حمل اسم «اختراع الأمس»، ووضع ضمن سلسلة «روائع القصص» التي تنشرها «نيويورك تايمز»، وكان له رواج واسع في الوسطين الثقافي والإعلامي.
المؤلف أميركي من أصل أفغاني، يدعى تميم أنصاري، وله إصدارات نالت شهرة واهتماما واسعين، منها «THE other side fo sky»، وترجمته «الجانب الآخر للسماء»، بالاشتراك مع فرح أحمدي.الكتاب الثاني، الذي حظي بقراءات عميقة هو «west of Kabul»، عبارة عن مذكرات «غرب كابول»، في حين أن كتابه الثالث «East of New York»، «شرق نيويورك» خرج بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وكان له صدى كبير في المجتمع.وبحكم الغربة التي عاشها المؤلف، جاءت أفكاره مستمدة من بيئته الأفغانية التي ولد فيها، أما كتبه فتدرّس في الجامعات الأميركية، وحالياً يكتب في موقع وصحف Incarta و«سان فرانسيسكو كرونيكال» ولوس أنجلس تايمز»، ويعد من الكتّاب الكبار الذين احتلت مؤلفاتهم المراكز الأولى بقائمة الـ Best seller.كتاب «اختراع الأمس، 50 ألف سنة من تاريخ ثقافة الإنسان وصراعاته وعلاقاته»، صدر في أكتوبر 2019.
أوهام الانتماءات
كانت المبادرة بدعوة من المخرج السينمائي والسيناريست الأستاذ عبدالمحسن حيات، الذي أراد بدوره إيصال رسالة مفادها «طالما بقي البشر متمسكين بأوهام الانتماءات، بمختف أشكالها، فلن يكون بمقدورنا أن نقيم «العالم الواحد»، وبعبارة أخرى، «طالما لم يتخلص الإنسان من خصائله الحيوانية، سيكون من المستحيل أن نجعل القاطنين على هذه الأرض يتعايشون في «جمهورية كونية واحدة».الحوار الذي أجريناه مع حيات تعدّى حدود السؤال والجواب، وكان أشبه بتناول أفكار من وحي الكتاب، وبصورة تتخطى الأسلوب التقليدي في العرض.تساقط الأسئلة
أول الغيث بجلسة الحوار، تساقط الأسئلة واحدا تلو الآخر على من يقرأ ويفكر....* هل نبقى على هذه الأرض؟ هل يجب علينا أن نستعمر الفضاء؟ هل الذكاء الاصطناعي يتوقف علينا كبشر! وكيف نصنع المستقبل؟أمضى صاحب الكتاب عمره في «بورتلاند» الأميركية بولاية أوريغون، الحدث الفاصل والمروع الذي غيّر مجرى حياته، كان عام 2001 ، بعد أحداث سبتمبر وزيارته الى مسقط رأسه، كان الناس يكثرون من الأسئلة، ويريدون أن يعرفوا المزيد عن الإسلام وعن أفغانستان.أدرك بعدها أن القضية أكبر عن ذلك، كان مهتما بما يحدث في الأماكن الجغرافية التي تتداخل فيها الثقافات، استكشف من خلال «العيون الإسلامية» - إن صح التعبير - تاريخ العالم وعلى نطاق الحضارات بمجملها.انشغل طوال ست سنوات بأشكال الصراعات وأنواع التصادم ومظاهر التواصل، وتطلّب منه الأمر التفرغ لإنتاج هذا الإصدار.الكتاب «اختراع الأمس»، ذو طابع تاريخي فلسفي يسرد قصة الإنسان منذ العصر الحجري وحتى العصر الرقمي في أكثر من 400 صفحة.الفارق بين الإنسان والشمبانزي
يقدم المخرج السينمائي عبدالمحسن حيات صاحب الفيلم الإبداعي الفارق 1% HTTPS.youtube.be.ML7zBsyRdU، والذي يتبنى نبذ العنف والحروب بأسلوب إنساني وفلسفي وعلمي، أن يكون التصويب نحو «جمهورية الأرض»، حيث لا حدود، ولا جوازات، ولا أعلام، ولا انتماءات، ربما لأن الفارق بين الإنسان والشمبانزي بكونه أرقى أنواع القرود من حيث «DNA»، لا يتعدى 1.4%، أي بنسبة 98.6%، وباعتبار أن أقرب القرود للإنسان من الحيوانات، هي هذه الفصيلة، في حين أن درجة التشابه، أي ما هو مشترك بمعايير الـDNA، بين الإنسان والدجاج، 82%، وبينه وبين الكلاب 87%، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.من العصر الحجري إلى الرقمي
يعاد طرح السؤال، وعلى ضوء مضمون الكتاب «اختراع الأمس»، هل من أمل بالإنسانية من دون حروب؟ بعد أن انتقل الإنسان من العصر الحجري إلى العصر الرقمي؟يذهب المؤلف الأميركي من أصل أفغاني للقول إن «المسرح جرى تجهيزه بعد أن استكمل عناصر بنائه الثابتة، والممثلة باختراعه اللغة ثم الأدوات ووجوده في المسرح البيئي المناسب»، وبفضل هذه الاختراعات أنشئت الحضارات الأربع زائد واحد.وهي حضارة الفراعنة في مصر، المتمركزة حول نهر النيل، وحضارة ما بين النهرين القائمة بين دجلة والفرات، وحضارة الإندوز في القارة الهندية وحول نهر الإندوز، والحضارة الصينية حول النهر الأصفر «هوانغ هي»، والحضارة البدوية الممتدة، التي لها شأن عظيم، والتي اعتمدت كل الغزوات لامتلاكها القوة، وبرز فيها المغول والتتار، وتواصلت تلك الحضارات مع الإغريق والفرس والرومان، وبالتوازي معها جاءت الأديان لتنظيم العلاقات بين بني البشر.أكبر الكوارث البشرية
رويداً رويداً، دخلنا عصر النهضة، ومن ثم جاءت الثورة الصناعية واختراع الآلة التي قلبت الموازين وطغت على أنشطة الإنسان في هذا الكوكب، لتُحدث التغيير الجذري في معظم مناحي الحياة، إن لم تكن كلها، حتى مفهوم القوة أصابه التغيير أيضاً.كان في إفرازات الثورة الصناعية، اكتشاف الأميركيتين، بواسطة الدول الغربية المتقدمة بالنقل وبالقوة البحرية، مثل البرتغال وإسبانيا وهولندا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، كل حسب عهده بتلك القوة.هذا الاكتشاف «للعالم الجديد»، أي الأميركيتين، أدى الى إحدى أكبر الكوارث البشرية التي كان ضحيتها السكان الأصليون (الهنود الحمر) عن طريق اقتلاع جزء كبير منهم بالقتل بواسطة السلاح، وتصدير الأمراض إليهم، التي لم تكن معروفة في القارتين حينذاك.المكتشفون الجدد
الآن انقلبت الطاولة على يد المكتشفين الجدد، فالغرب أراد الاستحواذ على موارد استئنائية كان يملكها الشرق، ولم تكن متوافرة لديهم في حينه.هذا التمدد الغربي، في الأميركيتين عزز الأرضية الصّلبة للقوميات ودعمها.عندما انقلبت الطاولة
تميم، ذهب الى أفغانستان بداعي الاستكشاف، وبعد أحداث سبتمبر 2001، لمعت عنده الفكرة الرئيسية في الكتاب. طالما أن حاجياتنا بالحياة مشتركة، لماذا الخلافات والصراعات؟ ولماذا يحاربون بعضهم البعض؟هنا وُلدت فكرة أخرى.فكرة تقوم على مفهوم «نحن وهم» Us and Them»، أي أن المشاركة «بالملكية» وبالثروة» ليست مباحة إلا إذا كانت هناك مصلحة مشتركة وعلاقة عقيدة أو عرق.الموضوع أخذ منحى جديدا، ووجود المصلحة خلق التجارة، وهذا بدوره أوجد حافزا آخر يتمثّل باستخدام العقل البشري وبكيفية التفكير بإدارة هذه التجارة عبر شركات أو تكتلات، وعلى طريقة شركة الهند الشرقية، كمثال.على قاعدة «نحن وهم»امبراطوريات حديثة ظهرت، قوامها القوة البحرية، وعمادها أسلوب التجارة والتسويق.صحيح أن الأفكار الجديدة ساهمت بتطور البشرية، لكنّها في الوقت نفسه خلقت مشكلات جديدة، وربما كانت المقولة الشهيرة لأحد الفلاسفة الأميركيين الكبار، وهو تي. إس. إليوت، هي الأقرب لهذه النتيجة «في نهاية اكتشافاتنا، نصل الى النقطة التي انطلقنا منها متوهمين بأننا نراها للمرة الأولى».بقي السؤال يتردد صداه، في تاريخ الحضارات، لماذا أعطي ثروتي للغير، فهذه الحضارات بنيت على قاعدة «نحن وهم»، والكلّ يتصارع على نهب ثروات الآخرين؟أفكار جديدة تتصارع على الأرض، قوميات، معتقدات أيديولوجية (ماركس، ماوتسي تونغ)، جاءت مرحلة ما بعد الحربين، عنوانها التحرر من قيود المؤسسات، وتبعتها الحقوق المدنية، المكفولة بالقوانين، وهي مرحلة الازدهار الفكري، تقدمت فيها التكنولوجيا وتراجعت العنصرية، ووصل الإنسان الى سطح القمر. وضعفت الى حد ما نظرية «نحن وهم».متجهون إلى الفناء
نصل الى خواتيمها، إذا استمرت البشرية تسير وفق نظرية «نحن وهم»، فنحن متجهون الى الانقراض والفناء، هكذا ينظر المخرج السينمائي عبدالمحسن حيات إليها.اليوم نعيش السيناريوهات نفسها، ممثلون جدد، مشاكل وصراعات متكررة.نعيد فعل ما عمله الإنسان من دمار في زمن جديد، وهو نفس ما كان يحصل من قبل، لكنه الآن بلباس مختلف.ستبقى البشرية مهددة بالانقراض طالما لا تزال العوامل المسببة لذلك، كالكوارث الطبيعية وتفشي الأوبئة وانتشارها، والحروب النووية، والذكاء الاصطناعي.لذلك، لن يكون مفيدا الركون الى ما قيل بأن الخطأ يكمن في النجوم، فالكائنات تأتي وتذهب، ومقومات الاندثار موجودة على المسرح (الأرض).خلاصات مخيفة، لكننا نطرحها اليوم على ضوء قراءات قد تشعل الوقود الفكري في عقول النخب وأصحاب الاختصاص من أجل إيجاد حياة آمنة على «جمهورية الأرض»، نؤمّل العيش فيها قبل أن تنقرض الحياة من على هذا الكوكب.قبل أن نختم الحوار مع المخرج حيات وفي محاكاة مباشرة لما يحدث اليوم من انشغال كامل بمحاربة وإيقاف انتشار وباء كورونا، قال: ربما كان من إيجابيات هذا الوباء ربط العالم بأكمله، بعضه مع بعض، بحيث وحّدته الإنسانية وأبعدته - ولو مؤقتا - عن الانتماءات، وجعلته يفكر بجدية في أن مصير الإنسان واحد، مهما كانت انتماءاته.