لا يسمح الدستور في الفلبين بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية لولاية جديدة، ولذلك يتحول معظم الرؤساء إلى ما يوصف بالبطة العرجاء عند بلوغهم منتصف الفترة الرئاسية التي تمتد ستة أعوام. ولكن الرئيس الحالي رودريغو دوتيرتي الذي وصل إلى عامه الرابع في الحكم يظهر تمسكاً بالسلطة وإصراراً على المضي من دون اهتمام بعامل الزمن، ومتجاهلاً كل انتقادات حدة حربه الدامية على المخدرات التي أسفرت عن مقتل ستة آلاف من مروجي ومتعاطي المخدرات.ويظهر استطلاع للرأي نشر في شهر ديسمبر الماضي أن شعبية دوتيرتي وصلت إلى 87 في المئة متجاوزة شعبية كل رؤساء البلاد منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد عهد الدكتاتور فرديناند ماركوس الذي استمر 20 عاماً.
ويأمل خصوم الرئيس دوتيرتي أن ينتهي حكمه في عام 2022 عند انتهاء ولايته، ولكن عليهم ألا يتوقعوا مغادرته لقصر الرئاسة بسرعة كما كان حال الرؤساء السابقين، ويبذل دوتيرتي الذي يتسلح بزيادة شعبيته كل جهد ممكن لتعزيز قاعدته الجماهيرية وتكريس إرثه إضافة إلى سعيه لاختيار خلف له يتمكن من خلاله في الاستمرار في الحكم بعد انتهاء ولايته، وإذا نجح في مسعاه فقد تستمر سياسته المعادية لليبرالية والغرب والنخبوية لسنوات طويلة.
الحملة على الليبرالية
حاول الرئيس دوتيرتي توسيع سلطاته من خلال مهاجمة القوى التي يعتقد أنها تقيد تلك السلطات بشكل أو بآخر، وفي الحادي عشر من شهر فبراير الماضي ألغى اتفاقية زيارة القوات العسكرية القديمة التي تسمح للقوات الأميركية بالتدريب في بلاده، وقد اعتبرت تلك الخطوة على أنها ضربة انتقامية تستهدف الولايات المتحدة التي ألغت تأشيرة دخول لرئيس الشرطة السابق لديه السيناتور رونالد ديلا روزا، ولكن دوتيرتي أراد أيضاً التخلص من اعتماد الفلبين على المظلة الأمنية الأميركية والمساعدة الخارجية التي توفرها الولايات المتحدة، وفي الماضي كان رؤساء الفلبين يضطرون الى الانصياع عندما تهدد الحكومة الأميركية بمنع المساعدات في محاولة للحد من عمليات الفساد وانتهاك حقوق الإنسان.وتحول الرئيس دوتيرتي إلى الصين بدلاً من الولايات المتحدة، وهو يعتقد أن أمن بلاده ومصالحها الاقتصادية في الأجل الطويل يكمن في المظلة الصينية، وكانت بكين أقرضت الفلبين أموالاً طائلة من أجل تمويل مشاريع طموحة في الفلبين أطلقها الرئيس دوتيرتي، كما أن السياح الصينيين ينفقون الأموال بسخاء وتسهم الشركات الصينية في الاستثمارات الفلبينية وجلب العملة الصعبة اليها، وبخلاف الولايات المتحدة فإن الصين تقدم تلك الفوائد من دون الضغط على الرئيس من أجل تحقيق الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان.وكان الرئيس الفلبيني عقد العزم على تكميم أفواه معارضيه المحليين، وخصوصاً أولئك الذين يتمتعون بقدرة على تحجيم سلطته، وتشتهر شبكة (إيه بي سي – سي بي إن) الإعلامية في الفلبين بأنها حققت ثروة سياسية، وهي مملوكة لعائلة لوبيز التي كانت منافسة لماركوس، وبعد سقوط ماركوس في عام 1986 تحالفت عائلة لوبيز مع الرئيسة الجديدة كورازون أكينو وحلفائها الذين يطلق عليهم «الصفر» وهم ائتلاف فضفاض من الليبراليين وإصلاحيي الطبقة المتوسطة ورجال السياسة المعادين لفرديناند ماركوس ورجال أعمال ورجال دين ليبراليين من الطائفة الكاثوليكية.وفي عام 2016 دعمت جماعة «الصفر» السيناتور مار روكسا في سباق الرئاسة ضد دوتيرتي الذي اتهم شبكة لوبيز برفض إعلانات حملته الانتخابية.وقبل عامين هدد دوتيرتي بإغلاق شبكة لوبيز، وقد ينفذ تهديده في أي وقت في الوقت الراهن، وطوال عدة أشهر رفض مجلس النواب المؤيد لدوتيرتي تحديد موعد لتجديد ترخيص تلك الشبكة الاعلامية، وفي مطلع شهر فبراير طلب الادعاء العام من المحكمة العليا في الفلبين إلغاء ترخيصها، ومن المرجح أن تستمر تلك الشبكة بالعمل إلى حين صدور قرار من الكونغرس بشأن ترخيصها الذي ينتهي في شهر مايو المقبل. جدير بالذكر أن تلك الخطوة لم تكن الأولى التي يقدم الرئيس عليها ضد النخبة التجارية المرتبطة بجماعة «الصفر»، فقد هدد دوتيرتي في شهر ديسمبر الماضي بحبس المسؤولين عن ادارة امتيازات المياه في العاصمة مانيلا متهماً إياهم بتضليل الحكومة وزيادة أسعار الاستهلاك، وقال في مهرجان شعبي «مهما كان عدد حراسكم أنا أستطيع تحطيم وجوهكم أيها الأوغاد»، ومع هبوط أسهم شركات المياه في أعقاب هجوم الرئيس وافقت شركتان للمياه على اعادة التفاوض حول عقود المياه والتخلي عن المزايا المجزية لمصلحة الحكومة.حملة قمع واسعة
شملت حملة القمع التي أطلقها الرئيس كل قطاعات المجتمع الفلبيني، وتركزت الحملة بصورة خاصة على الكنيسة الكاثوليكية التي كانت انتقدت بشدة حملته ضد الحرب على المخدرات وقد وصفها بأنها «المؤسسة الأكثر نفاقاً في الفلبين»، كما هدد بقطع رأس كاهن، ووفر ملجأ لشاهد على سوء استخدام القوة من قبل الشرطة في الحرب ضد المخدرات، وفي خطوات أشد قسوة استخدم دوتيرتي أجهزة دعايته للقضاء على الدعم المقدم للمعارضة الليبرالية، وتمكن في نهاية المطاف من احتكار السلطة السياسية في الفلبين.منهجية استخدام القوة
قد تكون عملية إظهار دوتيرتي لسلطته سيئة وقاسية، لكنها كانت منهجية أيضاً، فمن خلال خبرته في عمله رئيساً لبلدية مدينة دافاو في جنوب البلاد تعلم أن الناس يحترمون ويتبعون القائد القوي، وهو معجب بفرديناند ماركوس وقد قرأ الكثير من الكتب عن نيتشه وميكيافيلي ولذلك فإن الطبقات الممزقة في مانيلا في انتظار الخطوات الميكيافيلية التالية. وكان دوتيرتي نشر إشاعات عن عزمه ترشيح ابنته سارة أو مساعده السابق السيناتور غو لخوض سباق الرئاسة في عام 2022 وأشار إلى أن ابنته قد تخلفه في منصبه، ويتوقع بعض المراقبين أن يترشح دوتيرتي لمنصب نائب الرئيس بحيث يتمكن من الاستمرار في ممارسة السلطة، وتجدر الإشارة الى وجود سابقة لمثل هذه الخطوة: في عام 2010 وصل دوتيرتي إلى نهاية فترة خدمته كرئيس لبلدية مدينة دافاو ولذلك ترشح لمنصب نائب رئيس البلدية واحتلت ابنته منصبه رئيسة البلدية، لكن دوتيرتي استمر في ممارسة نفوذه في سيتي هول.وتعتبر درجة المخاطر عالية بالنسبة الى الرئيس دوتيرتي عندما تنتهي فترة رئاسته: سيكون في حاجة الى خلف لا يكتفي بضمان استمرار إرثه، بل أن يعمل أيضاً على حمايته وحماية رجاله من أي اتهامات جنائية في الفلبين أو في الخارج، فعلى سبيل المثال دعا قرار صدر عن مجلس الشيوخ الأميركي في شهر ديسمبر الماضي الى فرض عقوبات على مسؤولين فلبينيين وافقوا على عمليات قتل خارج القانون لمواطنين في الفلبين اضافة الى سجن سيناتور في المعارضة في مانيلا.جدير بالذكر أن محكمة الجنايات الدولية تدرس في الوقت الراهن اتهامات موجهة الى الرئيس دوتيرتي ومسؤولين آخرين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ذات صلة بالحرب على المخدرات، وقد تصدر المحكمة في وقت قريب إعلاناً حول الشروع في تحقيق رسمي.آمال الرئيس
ويأمل الرئيس دوتيرتي أن تسهم شعبيته في حمايته من المساءلة بعد انتهاء ولايته، ومنذ سقوط ماركوس في عام 1986 عمد المواطنون في الفلبين الى انتخاب رؤساء يختلفون تماماً عن بعضهمفي الخط السياسي.في غضون ذلك، وبالنسبة الى الوقت الراهن فإن دوتيرتي يتمتع بشعبية في أوساط الكثيرين من أبناء شعبه، وخصوصاً الطبقة المتوسطة، وذلك نتيجة دعايته المستمرة منذ عقود في أنه سيضمن الأمن في شوارع الفلبين.شيلا إس كورونيل*