أخلاق المرض الطيبة
بما أن العرب والمسلمين عموماً سلفيون بطبيعتهم، يعيشون الماضي والحاضر مندمجين في وقت واحد، يحبون التاريخ ويعيش بوجدانهم كأنه مازال يُعرض أمامهم وأبطاله أحياء بينهم، فإن كان لهذه الأزمة فوائد، فمن أهمها أنها أعادتهم قليلاً إلى أرض الواقع، وجعلتهم يفكرون في مستقبل وجودهم على هذه الأرض بجدية كبقية الأمم، ويتأملون في قيمة الحياة التي كانوا يضيعون أيامها في صراعات مستنسخة لا طائل من ورائها.فها نحن نراهم يتناسون أعمق خلافاتهم التاريخية، ولو مؤقتاً، ويبحثون عن أشد الاحتياطات التي تبقيهم على قيد الحياة، ويلتفتون عن المتشددين والمحرضين والسياسيين من جميع المذاهب، الذين يقتاتون على بضاعة إعادة تدوير الفتن.
وعندنا بالكويت مثلاً، لا أحد يذكر محمد هايف أو خالد الشطي وأمثالهما الآن، فهم ليسوا قادرين، في المقابل، على الكلام عمّا كانوا يزعجوننا به، فلا الأحقية بالخلافة تهمّ الآن، فـ "كورونا" هي أميرة المؤمنين والكفار حالياً، والجميع منصاع لأمرها حتى يقول العلم كلمته، ولا القضايا الهامشية التي كانوا يقرفوننا بها تعني أحداً الآن، كالاختلاط في مراكز الفحص الطبي مثلاً، في حين كان يزعجهم، في زمن الراحة، اختلاط الطلبة وتعليمهم المشترك، لكنّها الضرورات التي تبيح المحظورات، التي يفترض أنها ليست بمحظورات أصلاً إلا بذهن أصحابها في ذاك الزمن، لدرجة أن أوصلهم بحثهم هم أيضاً عن السلامة والنجاة إلى أن يسكتوا عن إغلاق دور العبادة، وهم الذين كانوا بالأمس يبحثون عن كلمة عابرة في كتاب مغمور ليمنعوه أو يحاكموا صاحبه، وليحرّضوا بعدها على خروج التظاهرات الصاخبة ضده، امتداداً من لاهور حتى نواكشوط.الناس تريد أن تعيش حياتها ومستقبلها بصحة وسلامة، وما كثرة جرعات الماضي في حياتهم قبل "كورونا" إلا نتيجة للفراغ والحاجة، فراغهم وحاجة الانتهازيين إلى شحنهم وتعبئتهم ضد الآخر الموهوم، ليسهل توجيههم والاستفادة منهم، وجاءهم المرض ليعاملهم بعدالة ومساواة، ولا يفرّق بينهم كما يفعل الآخرون، وكأننا محتاجون كل بضع سنوات إلى المرض نفسه، لا سمح الله، ليذكّرنا بإنسانيتنا، فاستفيدوا، حماكم الله، وتعلّموا من أخلاق المرض لزمان الصحة.