لا ينبغي أن تصرفنا مشاعر الاطمئنان وعبارات المديح والحديث عن الإيجابيات الكثيرة التي عاشتها الكويت أثناء وباء «كورونا» عن تأمل رسائل مهمة لهذا الحدث، لا يجوز أن نفوت هذه الفرصة دون الحديث عنها. صحيح أن الخدمات الصحية للكويتيين والوافدين كانت متقدمة وممتازة، حيث تم فحص عشرات الآلاف منهم وعلاج المئات أيضاً، كما تم حجر مئات القادمين إلى الكويت في الفنادق والمنتجعات الفخمة، كما تم إسكان الآلاف من الكويتيين في فنادق الدرجة الأولى في العديد من عواصم العالم، وجارٍ جلب عشرات الآلاف من الطلبة والسياح الكويتيين من الخارج، واستُنفرت وزارات الصحة والداخلية والدفاع وديوان المحاسبة لشراء الأدوية والتجهيزات الطبية والمعدات بالملايين التي يحتاج إليها الجيش وأجهزة الداخلية على وجه السرعة في هذه الأزمة، وجارٍ الآن تنظيف وتطهير الشوارع والمؤسسات العامة، والرواتب تُصرَف كاملة بحمد الله، غير أن كل ذلك ما كان ليتم لولا فضل الله تعالى ثم بفضل كل الجهود المخلصة، وأيضاً بما تملكه الكويت من احتياطيات مالية جاء الآن الوقت المناسب لاستغلالها والظرف القاهر للصرف منها، لاسيما مع انخفاض الدخل النفطي.
ولنسأل أنفسنا: لو لم تكن عندنا هذه الأموال في الاحتياطي العام هل كان بإمكاننا كل هذا الصرف الذي غبطتنا عليه كل أمم الأرض؟! وكنت قد تطرقت عدة مرات إلى ضرورة الاحتفاظ بالاحتياطي المالي وحمايته من الاستنزاف، لمواجهة أي كوارث أو أزمات في المستقبل، وذلك رداً على اقتراحات ودعوات غير مبررة للصرف من الاحتياطي العام أو احتياطي الأجيال بمصروفات جارية لا تعود بالنفع الحقيقي على الكويت وأبنائها، وكتبت أكثر من مقال في ذلك، وآخرها مقال «من كان يصرف على الكويتيين؟» بتاريخ 4 نوفمبر الماضي، مطالباً بضرورة الاحتفاظ بالاحتياطي لمواجهة أي أزمات قادمة شبيهة بكارثة الغزو، وها هي الأحداث تثبت صحة ما ذهبت إليه.ولنتذكر أن وكالة «فيتش» وغيرها ذكرت أن الاحتياطي العام سينتهي في 2021 بسبب الصرف المتتالي لسداد عجز الميزانية والتأمينات ومصروفات الدفاع، والآن أصبح الوضع أصعب، فقد وصلت أسعار النفط الكويتي إلى ما دون الثلاثين دولاراً حالياً، بينما لا تتعادل الميزانية إلا بسعر 85 دولاراً. إذن فانخفاض سعر النفط وعجز الميزانية والأزمات العالمية تحتم إعادة النظر في المصروفات وإصلاح الاقتصاد، والبحث عن مصادر بديلة، وأيضاً ضرورة الحفاظ على الاحتياطي العام وإعادة بنائه، وكذلك حماية احتياطي الأجيال من الصرف والعبث. كما لا ينبغي أن نفوت هذه الفرصة دون أن نتذكر أنه في وسط التضحيات والأعمال البطولية التي قام بها كثير من الشباب والجمعيات الخيرية لمساعدة الكويتيين والمقيمين على السواء ظهرت أصوات بغيضة حاولت إثارة نعرات طائفية محلية مع تراشق يثير الكراهية بين بعض الجنسيات العربية وساهم في ذلك بعض الجهلة، وكنت قد حذرت من إثارة هذه النعرات في مقال بعنوان «من الذي نقل العدوى وانتهك اللائحة؟» بتاريخ 24 فبراير الماضي، وبحمد الله قام كثير من الشباب الواعي بالرد الحصيف على تلك النعرات ودفنها قبل استفحالها. كما لا ينبغي أن تنسينا فرحتنا أو يصرفنا شكرنا للتجار الذين ساهموا بتبرعاتهم في هذه الأزمة عن أن نطالب بأن تكون مساهمة التجار مقننة ودائمة في الميزانية لا في الأزمات فقط، وهي مساهمة مفروضة شرعاً ودستوراً، ويا حبذا لو تم تكوين احتياطي خاص بالكوارث والأزمات يمول بنسبة من أرباح التجار، وكنت قد كتبت عن ضرورة مساهمة التجار في مقال بعنوان «لا غنى لأي بلد عنكم ولكن لازم تدفعون» بتاريخ 27 يناير الماضي. كما أظهرت الأزمة الدور الخطير الذي تقوم به بعض وسائل التواصل، وخصوصا الوهمية، في نشر الإشاعات والأكاذيب والطعن في الشخصيات وإثارة الفتن والبلبلة في هذا الظرف العصيب، وهذا الأمر كنت قد حذرت منه مراراً وطالبت بالكشف عن الحسابات الوهمية وتقنينها في أكثر من مقال ولقاء صحافي وتلفزيوني، آخرها كان مقال «أين الداخلية والقضاء وقادة الرأي من هذه الفتنة؟!»، بتاريخ 2 مارس الجاري، ولعل ما حدث في الأيام الماضية يثبت لمتخذي القرار خطورة إطلاق العنان لهذه المنصات بحجة المزيد من الحريات، لأن الحرية يجب أن تكون محددة بالمسؤولية على ضوء الشريعة والقانون، لذلك فإن على وزارتي الإعلام والداخلية بذل جهد أكبر في ملاحقة هذه الحسابات ووضع الإطار القانوني المناسب للحد من أثرها وخطرها على المجتمع. وأخيراً ها هي أزمة «كورونا» تفتح ملف التركيبة السكانية من جديد، فقد أثبت شباب الكويت أنهم قادرون على إدارة كثير من مرافق بلدنا العزيز بكفاءة، بالإضافة إلى ما يشكله اختلال التركيبة السكانية من أعباء مالية وأمنية وصحية على البلاد.لذلك يجب التفكير فور انتهاء الأزمة في اتخاذ إجراءات حاسمة من أجل تعديل التركيبة السكانية وإحلال الكويتيين محل الوافدين في كثير من المهن التي لم يعد شغلها بالكويتيين أمراً صعباً أو مكلفاً، مع التسليم بأننا لانزال نحتاج إلى إخواننا الوافدين في كثير من الأعمال التي لا يشغلها الكويتيون، وهذا أيضاً يحتاج منا إلى نظرة إصلاحية للتعليم وسياسة الأجور في القطاعين العام والخاص. كانت هذه قراءة لبعض الرسائل التي أرسلتها أزمة «كورونا» والتي تؤكد ما حذر منه ونبه إليه كثير من المصلحين والاقتصاديين من اختلالات مالية واقتصادية وإعلامية وسكانية فلعل الشعب الكويتي ومتخذي القرار يقرأونها القراءة الصحيحة هذه المرة ليتخذوا القرارات المناسبة لها في المستقبل.
مقالات
رياح وأوتاد: قراءة ثانية لرسائل «كورونا»
23-03-2020