ربما فرصة*
بينما خلت البيوت من أرواحها التي تحولت إلى أشباح، لا حوار ولا مساحة للحب ولا حتى وجبة مشتركة... كلٌّ يستخدم المنزل كأنه محطة قطار سريع ينزلون فيها ليقضوا احتياجاتهم ويعودوا إلى الطريق، جاء هذا الفيروس ليعيد الحياة إلى بعض حقيقتها، إلى معناها الأزلي... فالحياة ليست فستاناً وحقيبة، ولا هي يخت ورحلة تزلج، في حين تعيش الأغلبية أيامها كجري الوحوش ولا تُحصِّل إلا الرزق اليسير.
![خولة مطر](https://www.aljarida.com/uploads/authors/982_1671286347.jpg)
وبينما خلت البيوت من أرواحها التي تحولت إلى أشباح، لا حوار ولا مساحة للحب ولا حتى وجبة مشتركة... كلٌّ يستخدم المنزل كأنه محطة قطار سريع ينزلون فيها ليقضوا احتياجاتهم ويعودوا إلى الطريق، فإن هذا الفيروس جاء بعد ذلك ليعيد الحياة إلى بعض حقيقتها، إلى معناها الأزلي... فالحياة ليست فستاناً وحقيبة، ولا هي يخت ورحلة تزلج، في حين تعيش الأغلبية أيامها كجري الوحوش ولا تُحصِّل إلا الرزق اليسير. هي مساحة لاغتسال الروح بدمعٍ طالما انحبس في العيون، والآن تدفق كالشلال، الدمع الذي انتظر طويلاً حتى تعب، وهو يعلم أن من دونه لن تُفتَح النوافذ لحدائق مزهرة... وهو الدمع الذي كان يبحث عن وقفة للبوح عن حزن أو ألمٍ لأحبة رحلوا أو آخرين بعدوا، حتى لو بقيت أجسامهم تدور حولنا دون أن تتلاقى الأرواح... مساحة لفتح تلك الألبومات القديمة بصور كان لها طعم ورائحة، وليست هذه التي نضغط على زر فتصبح صورنا وخصوصياتنا مشاعاً... كانت الألبومات هي كنزنا، نحرص أن نضعها في خزانة «الأثمن في حياتنا»، لأنها أكثر بقاء من عقد من الألماس أو خاتم من الزمرد. نعيد قراءة «الحب في زمن الكوليرا» وكل روائع ماركيز، هل يا ترى سيكتب أحدهم رواية «الحب في زمن الكورونا»؟! نستمع لموسيقى كانت ملاصقة لنا على أشرطة كبيرة، ما لبثت أن صغرت، وقبلها أسطوانات عادت اليوم لتتحول إلى شيء من الابتكارات العبقرية. افتحوا تلك الخزانة ستجدون تلك التي كنا نسمعها في مساءاتنا، ومطلوب أن نخلد للنوم لنصحو باكراً إلى مدارسنا، وهو يجلس قرب الغرامافون يردد «يا سلام» وهي تقول «ألف ليلة وليلة»... ونضحك ونحن واقفون على السلم بين الطابقين اللذين كانا عالمنا الصغير، ونردد ما الذي يعجبه في ذلك؟ ونحن أيضا لنا موسيقانا، بعضنا مغرم بعبدالحليم «أنا لك على طول خليك ليا»، وآخرون يرددون البيتلز «شي لوفز يويا يا يا»... كلنا نهفو لذلك الزمن الجميل، الوقت يمضي ببطء فيتسع لشبابيك أن تنفتح وللمكتبات بأن تزين جدراناً لو نطقت لرددت عبارات من روايات إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وتنهيدات المراهقات وهم القلوب من بعيد. هي مساحة للعودة إلى الحديث الدافئ مع كوب من الشاي بالحليب مع الزعفران والهيل وبعض قطع البسكويت، حيث تلتئم الأسرة والضيوف عند العصر... يتناجى الإخوة ويضحكون حتى القهقهة لأن الوقت يسمح حتى بالضحك والبكاء وكل أشكال المشاركة... الضحك الذي شح هو الآخر كما جمعة المساءات الرطبة وقبل موسم «الرطب» أي البلح بتلاوينه.. لم يعد كثيرون يهتمون أو يعرفون ذاك المذاق الخاص لمئات الأنواع من الرطب بألوانه الصفراء والحمراء وما بينها وأسماءه... ولا يحلو إلا ومعه قهوة لا تحلو إلا من يد أمهاتنا يصنعنها بعناية فائقة ومقادير دقيقة، فالقهوة ليست كما يتخيل البعض، بعضاً من البن والماء، بل هي كثير من المحبة والمهارة العالية. هي مساحة لإعادة الحياة إلى دواوين محمود درويش وبدر شاكر السياب وأمل دنقل.. وموسيقى وأغاني الشيخ إمام بشعر أحمد فؤاد نجم، تأتي من الغرفة التي أوصد بابها خلف تلك الشلة الثائرة الرافضة لكل القيم، بنات وصبيان في مقتبل العمر يبحثون عن حرية ما يتابعون ما يجري في باريس 1968 بأعين متشوقة لما يشبه ذلك في أوطانهم... هم أيضا كانوا يمتلكون الوقت والمساحة ليكونوا جزءاً من ذاك الوقت المختلف. ربما هي فرصة، ربما هي لحظة للوعي، ربما هي الإنذار الأخير لنا، كلنا ولا تستثني أحداً...* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
إذا كنا نعيد قراءة «الحب في زمن الكوليرا» وكل روائع ماركيز فهل يا ترى سيكتب أحدهم رواية «الحب في زمن الكورونا»؟!