في محاولة لفهم واستيعاب العواقب الاقتصادية والمالية المترتبة على وباء كورونا، تتمثل الغريزة الأولى في البحث عن سوابق وعلاجات في أزمات سابقة، وفي هذا السياق، أشار كثيرون إلى الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008 باعتبارها المثال الأكثر صِلة، وخصوصاً في أعقاب تدابير السياسة النقدية الاستثنائية التي أعلنها مجلس الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة في 15 مارس، وهذا خطأ مؤسف.إن ما نجح قبل 11 عاماً لن ينجح اليوم، فالواقع أن هذا الوباء يُـعَـد صورة منعكسة في مرآة الأزمة المالية العالمية، ومن الأهمية بمكان أن تُـصاغ الاستجابة السياسية وفقا لذلك.
كانت الأزمة المالية العالمية، أولا وقبل كل شيء، صدمة مالية ألحقت خسائر فادحة بالاقتصاد الحقيقي، أما وباء كورونا فهو على النقيض من ذلك أزمة صحة عامة، وتتسبب جهود الاحتواء الصارمة، من الإغلاق، وحظر التجوال، وتقييد التجمعات العامة، في إحداث صدمة للاقتصاد الحقيقي، مع عواقب وخيمة تتحملها الشركات، وعمالها، والقطاع المالي.خلال الأزمة المالية العالمية، كانت الإجراءات غير المسبوقة من قِبَل بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي مناسبة وحاسمة في معالجة المصدر الأساسي للصدمة، والمتمثلة في الضربة المدمرة التي تلقاها النظام المالي، أما في حالة كورونا فلا يستطيع الفدرالي أن يلعب الدور ذاته، لأنه يعالج صدمة ثانوية وهي التداعيات المالية المترتبة على الصدمة الأولية التي تلقاها الاقتصاد الحقيقي.بدلاً من ذلك، يتعين علينا أن ننظر إلى استجابة بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي على أنها خطوة ضرورية، لكنها ليست كافية، لمعالجة أزمة وباء فيروس كورونا 2019، وهو دور حساس في أقل تقدير.الواقع أن عملية صنع سياسات الاحتياطي الفدرالي في لحظات الأزمات يجب أن تُـدار بحكمة، فمع اشتدد الأزمة، أصبح البنك في موقف عصيب، ومع ذلك، كان إعلان تدابير الطوارئ في 15 الجاري قبل يومين فقط من اجتماع السياسات المنتظم المحدد موعده سلفا، سببا في نقل حس الإلحاح الذي زاد بلا شك من مخاوف المستثمرين، وأجج الشائعات حول أزمة سيولة وشيكة.وتؤكد هذه الواقعة حقيقة مزعجة وهي أننا أصبحنا معتمدين بشكل كبير على العلاجات النقدية لكل مشاكل العالم، ففي الأيام السابقة بعثت المذبحة التي شهدتها الأسواق المالية برسالة قوية، وهي أن «قذيفة البازوكا الضخمة» التي أطلقتها البنوك المركزية، والتي نجحت بشكل فـعّـال في وضع أرضية تحت الأسواق الهابطة في أواخر 2008 وأوائل 2009 ليست السلاح الخطأ لمعالجة أزمة الصحة العامة فحسب؛ بل إنها للأسف تفتقر أيضا إلى الذخيرة الحية.كانت هذه بطبيعة الحال المخاطرة الأكبر طوال الوقت، فبعد فشلها في تطبيع أسعار الفائدة الرسمية في أعقاب الأزمة المالية العالمية، أصبحت الخيارات المتاحة للبنوك المركزية لمعالجة الصدمة التالية الحتمية محدودة، فمرة تلو الأخرى، نكتشف أن الصدمة التالية لن تكون أبدا مماثلة للأخيرة. ومع ذلك، يبدو الأمر وكأننا نركز بشكل مَـرَضي دائما على إعادة تصميم السياسات، والضوابط التنظيمية، والهياكل الاقتصادية التي كانت مشروطة بالأزمة الأخيرة، مما يجعلنا غير مستعدين على نحو مروع للأزمة التالية.إن وقف الأزمات أمر لا يتسنى إلا من خلال مهاجمة مصادرها، وفي خضم جائحة كورونا يجب أن يكون التركيز على احتواء الفيروس، ويستلزم هذا اتخاذ تدابير خَـلّاقة وسريعة، مع التركيز أولا وقبل كل شيء على البنية الأساسية للصحة العامة والعلوم الكفيلة بتمكيننا من احتواء هذا الوباء وتخفيف آثاره.استخدم بعض الخبراء القياس على زمن الحرب للتأكيد على حجم ونطاق الاستجابة السياسية المطلوبة، ورغم أن هذا مناسب، فإنه يفترض درجة من الإجماع السياسي الذي نفتقر إليه بشدة في البيئة المستقطبة اليوم، ومن المحزن أن هذه التركيبة التي تتألف من الاستقطاب الداخلي، وتدابير الحماية الوطنية، والتفتت العالمي، معضلة بشكل خاص في توحيد جهودنا جميعا في مكافحة أي مشكلة عالمية.كما هو الحال دائما، عندما تمر الأزمة، سوف نشهد قدرا عظيما من التأمل في الذات حول كيفية انزلاقنا إلى هذه الفوضى، وسوف يشمل هذا بلا شك إعادة تقييم العولمة، التي بدت ذات يوم كأنها الدواء الاقتصادي الشافي من كل الأمراض للدول الفقيرة والغنية على حد سواء، فبفضل التوسع الحاد الذي شهدته التجارة العالمية، إلى جانب الانفجار المصاحب لسلاسل القيمة العالمية، يصبح بوسع الاقتصادات النامية الفقيرة نسبيا أن تستفيد كدول منتجة من خلال الحد من الفقر وتعزيز مستويات المعيشة، في حين يستفيد العالم المتقدم كمستهلك من خلال القدرة على شراء سلع أرخص (وخدمات أرخص على نحو متزايد)، وبفضل خاصية «الفوز للجميع» هذه، روجت العولمة لذاتها عمليا.لكن العولمة قادت أيضا عالمنا الذي باتت أجزاؤه مترابطة بشدة إلى التثبيت الـمَـرَضي المؤسف على السرعة الهائلة للنمو الاقتصادي، فكلما كان النمو أسرع، زادت «الانتصارات» لكل من المنتجين والمستهلكين، ولكن من المؤسف أن هذا تجاهل جودة النمو ــ ليس فقط الاستثمار المطلوب بشدة في تخفيف الأمراض وتشييد البنية الأساسية للصحة العالمة، وهو الأمر الذي جعلته أزمة كورونا واضحا بشدة، ولكن أيضا الاستثمار في حماية البيئة على الرغم من الأدلة الواضحة بذات القدر على تغير المناخ.كان دليل مواجهة الأزمة المالية العالمية مصمما لعالَم يواجه تهديدات للنمو الاقتصادي الكمي، ومن غير الممكن أن يصلح الآن كإجابة لعالَم يواجه صدمة نابعة من أوجه قصور عابت نوعية هذا النمو، ومن الممكن أن تعمل السياسات النقدية والمالية على تخفيف الضائقة في الأمد القريب في الأسواق المالية والمجتمعات والشركات المتضررة بشدة، لكنها لن تعالج الأولوية الملحة المتمثلة في احتواء المرض وتخفيف آثاره.الآن، هناك إجماع واسع على أن أفضل طريقة لإعادة تشغيل محرك النمو العالمي تتخلص في تسطيح منحنى العدوى بالفيروس، سواء في البلدان فرادى أو على مستوى العالم، هذا فقط، وليس قالب السياسات النقدية والمالية المستخدم في الأزمة الأخيرة، هو ما يجب أن يكون محل التركيز الشديد من جانب صناع السياسات خلال هذه الأزمة. يشهد التاريخ على قدرة الاقتصاد العالمي الحديث على الصمود في أعقاب الصدمات السلبية، ويزودنا هذا بأسباب الأمل في الارتداد الذاتي إلى الانتعاش، لكن هذا لن يتحقق إلا بعد احتواء الوباء.* ستيفن س. روتش* عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، شغل سابقاً منصب رئيس بنك مورغان ستانلي في آسيا وهو مؤلف كتاب «علاقة غير متوازنة: الاتكالية المتبادلة بين أميركا والصين».«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
الأزمة والمقارنة المضللة
24-03-2020