هذا الأسبوع، أعاد إيمانويل ماكرون ابتكار نفسه! خلال خطاب متلفز حول فيروس كورونا، ظهر الرجل الذي بدأ عهده الرئاسي منذ سنتين كمسؤول ليبرالي مؤيد للقيم الأوروبية المشتركة بصورة سياسي قومي على طريقة شارل ديغول، وسيتوقف مستقبل فرنسا ومستقبله الشخصي في سدة الرئاسة على براعته في تبرير تحوّل مواقفه. شاهد رقم قياسي من الناس ذلك الخطاب (نحو 35 مليون مشاهد) من قصر الإليزيه، حيث وقف الرئيس الفرنسي أمام جدار مطليّ بالذهب وأعلام فرنسا والاتحاد الأوروبي، كان يرتدي بذلته الكحلية الاعتيادية وربطة عنقه الزرقاء وقميصه الأبيض. تكلم ماكرون طوال 20 دقيقة وشرح التدابير الوقائية التي سبق واتخذتها الحكومة، وحثّ الفرنسيين على الالتزام بها، كما حذر من إصرار الكثيرين على الذهاب إلى الأسواق والحدائق والمطاعم والحانات «وكأن الحياة لم تتغير».
لكنه شدد على تغيّر مسار الحياة فعلاً، بقدر ما تغيرت في زمن الحرب، كرر ماكرون في خطابه عبارة «نحن في حالة حرب» ست مرات للتأكيد على تبدّل الأوضاع في فرنسا وتغيّر مواقفه هو شخصياً، فقال بأسلوب حازم: «لن يكون اليوم الذي نخرج فيه منتصرين من هذه المعركة مشابهاً لليوم الذي سبقه»!يصبح هذا التغيير واضحاً حين نتذكر أول سنتين من عهد ماكرون، قوبلت جهوده المتواصلة لتقليص الامتيازات الاجتماعية التي كسبها العمال الفرنسيون على مر القرن الماضي بمقاومة متواصلة بالقدر نفسه، لم تشتق تلك المقاومة من اليسار السياسي المتخبط والمنهار في فرنسا بل من حركات شعبية على غرار «السترات الصفراء»، وسرعان ما انحسرت الاحتجاجات الأسبوعية، لكن بقيت الأسباب البنيوية والاقتصادية وراء استياء هذه الفئة قائمة. كذلك، أدت محاولة الرئيس إصلاح نظام التقاعد في فرنسا إلى إعادة إحياء النقابات الخامدة، وقد نجحت إضراباتها في شلّ شبكات النقل المحلية طوال أسابيع خلال الشتاء الماضي.تفوقت الحكومة على المحتجّين، لكن انتصارها كان مكلفاً جداً، صحيح أنها تراجعت عن موقفها في مسائل عدة، لكنها اضطرت في نهاية المطاف إلى إقرار مشروع قانون إصلاحي مُخفَّف بفضل مادة دستورية تسمح للحكومة بتعليق النقاش البرلماني وسن القوانين في الظروف الاستثنائية.اليوم، يبدو ذلك الجدل جزءاً من حقبة غابرة. فقد تبيّن أن مسائل قليلة، على غرار الأزمة الوجودية، تستطيع أن تعيد إطلاق العهد الرئاسي وتُجدد شخصية الرئيس. أعلن ماكرون في مقطع ذاتي مدهش من خطابه: «علّمتنا هذه المرحلة دروساً كثيرة، فقد أطاحت بجزء كبير من أفكارنا وقناعاتنا، ويحتاج الجزء الآخر إلى مراجعة شاملة، ستتحقق أهداف كثيرة كنا نعتبرها مستحيلة».اتّضح هذا التحول في المواقف حين أكّد ماكرون على سيادة فرنسا عبر التخلي عن السياسة النقدية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي وفتح الخزينة. عملياً، كشف ماكرون عن استعداد الدولة لدفع أي ثمن في سبيل حماية الفرنسيين، لا من العدوى الفيروسية الأخيرة فحسب، بل من دوامة الكوارث الاقتصادية أيضاً. واستكمالاً لهذا التحول، أعلن وزير الاقتصاد في عهد ماكرون لاحقاً أن الحكومة باتت مستعدة لتأميم قطاعات أساسية.إذا طبّق ماكرون أقواله، يمكن اعتبار خطابه تاريخياً. وفي ما يخص أسلوب الكلام، رصد بعض المعلّقين مظاهر من أسلوب جورج كليمنصو الذي قاد فرنسا في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، بينما سمع آخرون صوت ديغول خلال خطابه على قناة BBC في 18 يونيو 1940، حين أعلن أن «شعلة المقاومة» لا تزال ساطعة في فرنسا، صحيح أن فيروس كورونا الجديد يفوز بالمعركة حتى الآن في فرنسا، لكنّ الفرنسيين سيفوزون بالحرب في نهاية المطاف. تكشف الأحداث الحاصلة منذ أيام أن تحوّل ماكرون ودعوته إلى توحيد البلد أقنعا أغلبية الفرنسيين، وعليه أن يحسّن أداءه في هذا المجال إذا أراد أن يصبح وريثاً لحقبة ديغول.* روبرت زاريتسكي
مقالات
ماكرون يستغل «كورونا» لإعادة إطلاق عهده الرئاسي!
25-03-2020