الليلة مظلمة وموحشة، والشوارع تفتقد مريديها، ربما للمرة الأولى تسأل الطرقات: «أين هم؟»، ولا صوت إلا صوت الريح وبعض سيارات الشرطة الباحثة عن مخالف هنا أو هناك، تبحث المتاحف والمطاعم والمقاهي والمعارض وصالات عرض الموسيقى والباليه عن الطوابير الطويلة من عشاق الطعام الجيد والموسيقى واللوحات الفنية، لا أحد، لا أحد كلهم أغلقوا أبوابهم وأقفلوها حتى لا يتسرب ذلك المخلوق الصغير جداً في الحجم الكبير جداً في قدراته، لا يتسرب إلى بيوتهم وغرف طعامهم وفراش النوم. الليل معتم ليس هنا فقط بل في كل مكان، تساوت كل المدن والقرى رغم أنهم قالوا إن ما يخيفه هو الضوء لا العتمة، كثيرون لا يعرفون العيش إلا في تلك البقعة المعتمة، فلماذا نلون ذاك المخلوق الصغير الذي أصبح سبباً للموت وسارقا للملذات ومثيرا للهلع الذي تحول إلى مرض نفسي للكثيرين وهوس رغم فداحة الأمر.
عندما يأتي المساء زاحفاً يبدأ الجميع بالجري سريعاً، وكأن شبح الموت يطاردهم، ورغم الخوف المرتبط بالمدن المقفرة فإن كلاً يعرف تضاريس مدينته، ويستطيع أن يعرف أي موقع، وهو أو هي مغمض العينين عبر كل الحواس الأخرى، ربما الشم أو اللمس أو حتى الهواء المعتق في جدران بيوتها، ولكن ماذا عن أولئك الذين يهبط عليهم الليل بظلمته في المدن البعيدة؟ ماذا عنهم عندما تفترشهم الطرقات أو الأرصفة التي لا تعرفهم؟وآخرون كانوا من الساكنين في حقائب السفر، ولم تكن ساعات السفر الطويلة تزعجهم، ولا حتى العيش في غرف الفنادق، أولئك الذين يتفاخرون بأنهم قادرون على عبور المحيط دون أن يصابوا بدوار تغيير الوقت!! ماذا عنهم؟ هل تأقلموا مع الوقت عندما يتوقف، ومع الطائرات المتراصة في المطارات والفنادق الفارغة إلا من العالقين؟ والبيوت التي لم يعرفوها إلا ما بين بين، وعائلة يتعرفون عليها للمرة الأولى وكأن الغربة أصابتهم قبل أن يصيبهم ذاك المخلوق؟ رسائل التهويل وبث الخوف تتنافس معه من يصل قبل الآخر، الأول إلى عقلك وقلبك والآخر إلى رئتك، وكلاهما قاتل قبل الموت، حتى العقلاء تخلوا عن عقلهم تحت آلات الخوف والترهيب، وأصبحوا جميعا يستجدون المنجمين ورجال الدين ليقولوا لهم: هل هذه هي نهاية العالم أم لا؟ يحولون الكلمات البسيطة إلى شيء من الألفاظ العلمية حتى يصدقها الخائفون من ذاك الذي لا يستطعيون فهمه، ولم يستطع أحد، ربما الكثيرون حتى من المختصين، أن يفسر أبعد من الكلام العام المتداول. في الليلة المظلمة تبدو التفسيرات انعكاساً لها، فتدخل في الغيبيات والخرافات وكثير من الجهل المعبر عن مدى قلة معرفة بعضنا ببعض، وكرهنا لطبائع البعض، وتصور كل منا أنه الأفضل والأكثر معرفة ورقياً، لا يتوحش الليل إلا عندما نحوله نحن إلى الصمت، وننزوي كل في مكان أكثر عتامة بدواخلنا لا نتيجة لانقطاع الكهرباء، وهي ظاهرة عربية بجدارة في عام 2020، ما زلنا نعتاد أن نكون دون كهرباء في مواسم أو ساعات من اليوم فنرسم مسيرة أيامنا بناء على توافر الماء والكهرباء، كل هذا وكنا راضين به ولم نتذمر، ولكن والآن وبعد أن هجم هذا المخلوق على الجميع، وفي الوقت نفسه، ولم يمايز بين هذا وذاك وبين هي وهو، لا يطول الليل إلا إذا تصورنا أنه مرادف للعتمة، ولا يمكن أن ينتصر إلا إذا استسلمنا وحولنا كل هذا إلى شيء من المأساة التي تبدو هي بشكل أو آخر حيلة الحائرين دوما، وهذا لا يعني أن يتهور الجميع ويفتح رئتيه لاستنشاق القاتل الجديد المتلون، بل يعني ألا يفقد المرء منا تركيزه، ولا يجعل كل هذه التحولات السريعة التي قلبت الكون بأكمله، لا يجعل منها مساحات أخرى للخوف الذي لم نعرف غيره على مدى عقود، رغم كل ذلك سنبقى نفتقد ليلنا الذي عرفناه منيراً بأقماره حتى في ليالي الخسوف. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
ليلٌ دون قمر *
30-03-2020