ارتحنا بعض الشيء من كثير من الأبواق، وقلنا شكراً لك أيها الفيروس، ظلموك فقالوا: قاتل، رغم أنك رحمت الملايين من البشر من كثير من الأصوات، ولكن كما أن الفيروس يتأقلم فتلك الأبواق تأقلمت سريعاً، وعادت لتنقع هنا وهناك في أماكن مختلفة حتى وصلت إلى أهم سلطة في أي دولة ألا وهو البرلمان أو بيت الأمة وصوتها ووجدانها وإلى السلطة الرابعة، منبرين أساسيين لأصوات الأغلبية أحيانا والأقلية كثيراً، ولكن الأولى اكتفت ببعض المساحة في ظل أنظمة وضعت الأقفال حتى على تكنولوجيا التواصل، فراحت توقف "واتساب" أو تراقب "تويتر" وتتلصص على حسابات الأفراد على "فيسبوك" وليس لتوقف قذارة بدأت تنتشر فتستخدم الحداثة للأمراض القديمة المستشرية نفسها.

عادت لتبرز وجوها تمنينا أن "تخليها في البيت" كما كلنا، وأن تكمل استراحتنا هذه فتريحنا من كثير من السواد في وقت عاد العالم ليعمل على مصالحات مع بعضه، عاد ليعرف من هو الصديق ومن هو صاحب المبدأ ومن هي الإنسانية التي لن يخيفها فيروس لتقول إن على الوافدين أن يخرجوا الآن من أوطاننا "ارحلوا فمستشفياتنا وأجهزتنا الصحية لا تستوعبكم"، ارحلوا لأن بيوتكم المكتظة بأوساخكم بدأت تزحف على قصورنا المحصنة، ارحلوا لأننا الآن لا نحتاج لكم، فقد أقفلت الورش والمحلات والمصانع ولم يعد يهمنا إلا من يبقى ليكنس أوساخنا ويصلح كهرباءنا واتصالاتنا التي عندما تنقطع نشعر بالاختناق، ونكون بحاجة إلى أوكسجين "الإنستغرام" والفيروس من أمامنا والموت بالوحدة التي صنعناها من خلفنا!

Ad

كلما مرت مجتمعاتنا بمرحلة ضيق كان اللوم على العمالة الوافدة حيث تتوجه أصابع الاتهام لها، فهي مصدر ضيق عيشنا لأنها تنافسنا على قوت يومنا!! وهي تزاحمنا في شوارعنا وطرقاتنا السريعة وأسواقنا الشعبية ومراكز التسجيل والصحة والتعليم وحتى في الهواء الذي نستنشقه هي مسؤولة عن تلوثه، ماذا بعد من جرم لم ترتكبه هذه الفئة؟ ماذا بعد؟

عندما قامت دولنا وهنا لا أعني دول النفط فقط، بل أيضا دولا أخرى، انظروا إلى لبنان مع العمالة السورية والعمالة الإفريقية المتدنية الأجور في كثير من دول شمال إفريقيا، كلنا متهمون بالعنصرية، كلنا نأتي بهم فهم لم يركبوا القوارب ويعبروا البحار ويتسللوا عبر شواطئ، وإلا ما اكتظت عماراتنا بيافطات مكاتب استخدام لا تستحي من أن يتضمن إعلانها "العاملة الفلبينية بـ600 دولار والسريلانكية بكذا والإثيوبية بكذا والطباخ البنغالي و...و..."، هذه المكاتب التي ليست أكثر من ذاك الذي كان ينادي في أسواق العبيد، ويحسن وصفه بأنه شديد البنية، وقادر على تحمل الأعمال الشاقة، أو أنها ساحرة في الجمال، وتصلح أن تكون جارية تمشط شعر "المعزبة" بالنهار وتسلي "مالكها" في المساء!

فماذا تختلف هذه المكاتب عن تلك الأسواق؟ وماذا فعلنا عندما قلبنا التركيبة السكانية بعلمنا ومعرفتنا ومع سبق الإصرار والترصد حتى تعب الاختصاصيون والباحثون الاجتماعيون في ثمانينيات القرن الماضي وما بعده من التذكير بانعكاسات ذلك على المجتمعات في هذه الدول، ولم تكن هناك آذان صاغية، فهذه عمالة رخيصة وليست لها حقوق ولا تستطيع أن تطالب بها حتى لو عرفتها حسب قوانين العمل المنمقة والباقية في جوارير وزارات العمل الفاشلة بجدارة، فكيف يستطيع المواطن أن يقبل بمرتب متدن وأقل من الحد الأدنى للأجور؟ لا يهم سنوفر له بدل بطالة لا يطعم العيون فقط بل يسدها.

هذه العمالة هي التي بنت عماراتنا الشاهقة، لا يفارقني مشهد في إحدى المدن التي تتفاخر بأعلى مبنى وأضخم مركز تجاري إلخ... إلخ، والساعة الثالثة صباحا وطوابير من عمال البناء تصعد لتلك العمارة وأخرى تغادر، ويتباهي بعض رجال أعمالنا المبجلين بأن العمل جار على مدى أربع وعشرين ساعة، وهم جالسون في ذاك المطعم الفاخر يدخنون سيجارهم الكوبي، ويدفعون لوجبة ما يعادل مرتب عامل وافد في شهر أو ربما أكثر من شهر!

هم من قاموا بتنظيف مدننا وشوارعنا، وإصلاح كل البنية التحتية من اتصالات إلى مجارٍ إلى طرق في حرارة تصل أحيانا إلى 60 درجة، هم ينظفون بيوتنا ويطبخون وجباتنا اللذيذة، ويربون أطفالنا ويغسلون ملابسنا وينامون بعد أن يخلد كل فرد في المنزل إلى النوم حتى لا يشتهي أحد الأولاد طبقا مما يحب، ولا تكون الشغالة موجودة، سمعا وطاعة "مولاي"، يتراص العمال الذكور منهم في بيوت مكتظة، الجسد عند الجسد وكل المرافق مشتركة لأعداد هائلة ثم نلومهم "لأنهم باختصار وسخين"، ونحن نتعطر بأغلى العطور، تجاه الفيروس فماذا فعلنا؟ هنا عدنا لتلك النعرة، وعاد كل منا للمناطق المظلمة من نفسه، ولم يعد هناك من يستحي لأن الخوف سيد الموقف، والأمر أصبح كل لنفسه، فالمطبلون لحقوق الإنسان يرددون اعزلوهم وأخريات يقلن رحلوهم وكثيرون يصرخون عبر الشاشات والمنابر المتاحة لهم أولهن، في حين ذاك العامل الهندي لا يجد من يسمع أنينه، كلهم وكلهن عادوا للتنديد بأكبر "مجرم" في المجتمع ألا وهو تلك العمالة، كم أنت كبير يا فيروس فقد كشفت الجميع، ولم يبقَ أي غطاء هنا أو هناك، فمن يستر عورات نفوسكم؟

قديما كان يقال تعرف معادن البشر في وقت الأزمات، ومع الوقت تحول الأمر إلى أنه في المحن تبرز المعادن والمبادئ لا في أوقات الرخاء.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية.