يعيش العالم مع "كورونا" وضعاً بشرياً لم يسبق له مثيل، فحتى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت مجموعة كبيرة من الدول يحارب بعضها بعضاً، بينما دول أخرى تقف على الحياد، أو هي بعيدة عن ميادين القتال، أو هي أصغر من أن تدخل في معارك ومعمعة الكبار. لكن "كورونا"، وهذا بالدرجة الأولى بسبب انفتاح فضاء العالم، ومواقع الإنترنت، ومحركات البحث، وشبكات التواصل الاجتماعية، والمحطات الإخبارية العالمية التي تعمل على مدار الساعة، وأخيراً بسبب العولمة، التي من المرجح أن تكون الضحية الأكبر لوباء كورونا- بسبب من هذا الوصل الإنساني الكبير والمنفتح، فإن وباء كورونا اجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه، وفرض الخوف والهلع، على البشرية جمعاء، فليس من مجتمع كبير أو صغير، غني أو فقير، إلا ويقف خائفاً يرتعد من فيروس كورونا. وما من مجتمع إلا وتأثر بشكل أو بآخر بـ"كورونا"، اقتصادياً واجتماعياً، وكثيرة جداً هي المجاميع البشرية حول العالم التي تشتغل ليل نهار للوصول إلى دواء أو علاج لهذا الفيروس شبه الميت، والذي ينتفض عائشاً ومدمراً متى وصل إلى الأغشية المخاطية لجسم الإنسان."كورونا" في وجهه الآخر، يدسّ ليل نهار سلوكاً جديداً على فكر ووعي ومسلك بني البشر، فإذا كانت حياة العالم الافتراضي قد أبعدت كثيراً من البشر عن الوصل الاجتماعي الواقعي والحميمي، وإذا كانت قد ألقت بظلالها المعتمة على كثير من الممارسات الإنسانية الاجتماعية، إذ إن بشراً كثراً صاروا يتعاملون مع الواقع بقوانين الواقع الافتراضي، وصاروا يقسون على الآخر الحقيقي الواقعي قسوتهم على الافتراضي، فإن "كورونا" لا يكتفي بتعزيز حياة الواقع الافتراضي، والعلاقات الإنسانية من خلف شاشات الكمبيوتر والآي باد والتلفون الذكي، بل إن العالم برمته، صار يردد طوال وقته وبكل اللغات وبمختلف النبرات: "تباعدوا تصحوا"، حتى بات الوالد يخاف من احتضان ولده، وصارت الفتاة تتردد كثيراً في احتضان أبيها وطبع قُبلة على خده.
استيقظ "كورونا" ليزور كوكب الأرض، بينما هو يرزح تحت عيش "الحداثة السائلة"، على حد تعبير الفيلسوف "زيغمونت باومان-Zygmunt Bauman"، حيث محاولة التحلل من كل تبعات العلاقات الإنسانية والأسرية الصلبة والثقيلة، التي تربط المرأة بالرجل، أمام الدين والقانون والمجتمع، وعيش نمط علاقات يتخذ من الوصل اللحظي، والفكر والنقاش اللحظي، والمنفعة اللحظية، والمتعة اللحظية، أساساً لعلاقة الإنسان بالإنسان. وهذا ما يصيب كيان الأسرة الناشئة في مقتل. "كورونا" جاء ليزيد الوضع الإنساني الاجتماعي والأسري سوءاً وتعقيداً، فالأسرة، في كل مكان، كانت تجتمع حول لحظة زمنية واحدة، وفي مكان واحد، بينما كل فرد يعيش منعزلاً في فقاعته، ومع من وما يحب. "كورونا" إذ أكّد هذا الوضع، فإنه منذ اليوم الأول، فرض واقعاً جديداً يقوم على ضرورة التباعد، وضرورة عدم الاختلاط، وضرورة الحذر من الآخر، وأخيراً ضرورة التطهر من أي ملامسة عابرة مع البشر أو الحجر. "كورونا"، وفي القلب من نتائجه الإنسانية المدمرة، أخافَ الإنسان من الإنسان، ونفّر الإنسان من الإنسان، وأوجد خيفة في قلب المحب تجاه حبيبه، وطالب وألحَّ وشرّع للتباعد الإنساني. ولقد كتب وزير الخارجية الأميركية الأسبق "هنري كسينجر-Henry A. Kissinger" مقالاً في صحيفة "وول ستريت جورنال-The Wall Street Journal"، بتاريخ 3 أبريل الجاري، أوضح فيه أن "الأضرار التي ألحقها تفشي فيروس كورونا المستجد بالصحة قد تكون مؤقتة، إلا أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أطلقها قد تستمر لأجيال عديدة". وأنا أضيف بألم أن الاضطرابات لن تعصف بالسياسة والاقتصاد فقط، لكنها قبل هذا وذاك ستمس وتخدش وتجرح وتغيّر المسلك الإنساني، وربما احتاجت البشرية إلى عقد من الزمن كي تنفض عن وعيها ولا وعيها ما خلفه "كورونا" من صيحة متوحشة: تباعدوا تصحوا.
توابل - ثقافات
لون الغد – 3
08-04-2020