لم يعد لدى منظمة التجارة العالمية هيئة استئناف عاملة تسهم في حل الخلافات المتصاعدة بين الدول الأعضاء فيها، فقد تقاعد عضوان في تلك الهيئة في أواخر عام 2019 كما أن الولايات المتحدة تعمل جاهدة لعرقلة أي تعيينات جديدة فيها منذ عام 2017، ومعروف أن هيئة الاستئناف هي الجهاز الأعلى الفاعل في نظام تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية ولديها الآن مجموعة قليلة من الأعضاء ليست كافية للتوصل إلى حلول لأي خلافات.وتجدر الإشارة إلى أن وسائل الإعلام في الولايات المتحدة شنت حملة واسعة من الانتقادات للرئيس دونالد ترامب بسبب عرقلته للتعيينات في منظمة التجارة العالمية، ولكن البيت الأبيض رد على تلك الحملات بالقول إن الإجراءات المتبعة بالتقاضي فيها بطيئة جداً، مشيراً إلى أن المدة الزمنية يجب أن تصل في حدها الأقصى إلى ثمانية عشر شهراً، ولكنها على صعيد الواقع تمتد إلى 34 شهراً بشكل وسطي.
وعلى سبيل المثال كانت شكوى الإدارة الأميركية ضد الاتحاد الأوروبي حول مساعدات الحكومات لشركة ايرباص– وهي الشركة الرئيسة المنافسة لبوينغ– قد احتاجت إلى أكثر من عقد من الزمن حتى أمكن التوصل الى حل لها.ولكن الانتقادات الأميركية الأساسية تمحورت أيضاً حول جوانب أخرى مثيرة للقلق على الصعيد القضائي، حيث طلب من هيئة الاستئناف في منظمة التجارة العالمية مراراً وتكراراً إصدار قرارات تتعلق بقواعد المنظمة "الغامضة وغير الكاملة".
إجراءات ضد الإغراق
ومن بين تلك الجوانب المثيرة للقلق هناك الإجراءات التي تهدف إلى الحد من عمليات الإغراق في أحكام نظام تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية. وتتجلى مثل تلك الخطوات في معارضة الولايات المتحدة لإجراءات الإغراق التي تقوم بها دولة أجنبية، وتستهدف دولة أخرى وتطرح فيها كميات زائدة من المنتجات التي تقدمها الشركات المملوكة للدولة والمحمية ضد قوى السوق. وتسعى الإجراءات المضادة للإغراق إلى الحد من تلك العمليات التي تهدد بتدمير الصناعات وفرص العمل في الولايات المتحدة، والتي لا تتمتع بحماية من قوى السوق، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن أميركا تمكنت من كسب قضيتين فقط من أصل 29 قضية ضد الإغراق.الجوانب الفنية في الأحكام
من الوجهة الفنية تهدف قواعد منظمة التجارة العالمية إلى الحد من فرص تقديم الدول المعنية لمساعدات مالية إلى الشركات المحلية والسماح للشركاء التجاريين بمعاقبة الجهة المخالفة، ولكن اللافت في هذا السياق أن هيئة الاستئناف في المنظمة قد أصدرت أحكاماً تجعل من الصعب اتخاذ إجراءات تهدف إلى معاقبة الشركات الصينية التي تتمتع بالكثير من الدعم الحكومي. ويضاف إلى ذلك أن الكثير من المساعدات المالية المقدمة من الدولة في الصين تتم بطرق غامضة وضبابية، ويطلب من الدول الأعضاء إبلاغ منظمة التجارة العالمية بمثل تلك الخطوات، ولكن الصين تحجم بشكل دائم عن عمل ذلك. وأخيراً، تحتفظ الصين بوضعيتها ضمن الاقتصادات النامية على الرغم من أنها أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتمكنها تلك الوضعية من فرض ضرائب استيراد تفوق ما تفرضه الولايات المتحدة في معظم الأحيان، وفي حقيقة الأمر وقبل اندلاع حرب التجارة مع الصين كان متوسط التعرفة التي فرضتها الإدارة الأميركية على المستوردات يصل إلى نحو 3 في المئة في حين كان متوسط التعرفة التي فرضتها الصين نحو 10 في المئة، ويوجد أيضاً الكثير من الحواجز الخفية التي تسهم في رفع تكلفة التصدير إلى الصين وبنسبة عالية جداً.أخطار إضعاف منظمة التجارة
الخلافات التي شهدتها منظمة التجارة العالمية طوال الفترة الماضية تمتد إلى ما هو أبعد من انزعاج الولايات المتحدة من بعض الأحكام التي أصدرتها المنظمة وخسارتها حفنة من تلك الأحكام، وبشكل إجمالي كسبت الإدارة الأميركية وخسرت كمية متساوية من القضايا التي رفعتها أمام منظمة التجارة العالمية، كما أن الكثير من القضايا التي يستشهد البيت الأبيض بها على شكل قضايا إشكالية ليست لها علاقة بالولايات المتحدة.وتجدر الإشارة، على أي حال، إلى أن الشكاوى التي تطرحها إدارة الرئيس دونالد ترامب اليوم ترجع إلى عهد الرئيس السابق باراك أوباما الذي استهل عملية عرقلة التعيينات في مناصب القضاة في منظمة التجارة العالمية.ولا بد من التذكير بأن إدارة الرئيس ترامب أسهمت في تصعيد الوضع كما أنها كانت أكثر حدة من الإدارات الأميركية السابقة بالنسبة إلى جهودها الرامية الى القيام بعمل من نوع ما إزاء الشكاوى المستمرة منذ زمن طويل.ويشعر البعض بالقلق من أن يعمد البيت الأبيض– إذا لم يحصل على تنازلات من الأعضاء الآخرين في منظمة التجارة العالمية- إلى العودة إلى الاتفاقية العامة حول نظام التعرفة والتجارة التي لا يزال النظام السابق "الغات " يعمل بها اليوم.جوانب المغامرة
ولكن العودة إلى الاتفاقية العامة المذكورة تنطوي على جوانب مغامرة كثيرة، ويذكر في المقام الأول أن الفارق الرئيس يتمثل في عدم وجود إطار عمل قضائي لدى الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة، وهي تتطلب عمليات دبلوماسية من أجل تحقيق أهدافها، وعلى الصعيد العملي فإن الكتل التجارية الأصغر حجماً ستفقد أي درجة من التساوي مع الكتل الأكبر في ظل غات.وفي حين سيمكن ذلك الولايات المتحدة من القيام بعمل أوسع ضد رأسمالية الدولة الصينية فإنه سيفضي أيضاً الى تمزق عام في العلاقات التجارية، إضافة إلى أن العودة إلى نظام غات يمكن أن تلحق الضرر باللاعبين الصغار الذين لا تختلف الولايات المتحدة معهم فيما تترك بعض اللاعبين الكبار المسيئين– مثل الصين وأوروبا– في أمان نسبي.جهود إنقاذ المنظمة
في الجهود الرامية الى إنقاذ منظمة التجارة العالمية يحاول الاتحاد الأوروبي بناء نسخة من نظام تسوية النزاعات، ولكن كندا والنرويج فقط شاركتا في هذه الخطوة. وربما يرجع ذلك الى افتقار أوروبا ذات التوجهات الحمائية الى الصدق في مثل هذه القضايا على الرغم من تظاهرها بأنها رائدة في ميدان التجارة الحرة، وبكلمات أخرى إذا لم تقف الولايات المتحدة بقوة وراء هذه المؤسسة لا توجد دولة أخرى تستطيع القيام بذلك.الإصلاح هو السبيل الوحيد
ويتمثل الخطر الآن في عرقلة أوروبا والصين خطوات إصلاح منظمة التجارة العالمية ولفترة تمتد إلى ما بعد انتخابات عام 2020 على أقل تقدير، وذلك بانتظار معرفة الفائز في تلك المعركة الانتخابية، وعلى الرغم من أن البيت الأبيض لم ينسحب من منظمة التجارة العالمية فإن على الإدارة الأميركية التقدم بحذر في هذا الصدد، ثم إن التخلي عن منظمة التجارة سيمثل خطأً جلياً وهو لن يعني بالضرورة التراجع عن إطار عمل غات، إضافة إلى تمتع منظمة التجارة العالمية بدرجة من المرونة وبمجرد استعداد الدول الأعضاء فيها لإجراء مفاوضات تتوافر الحلول الكثيرة من أجل تطويرها.وعلى سبيل المثال اقترحت جهات مخرجاً يوصف بأنه "تشريع احتياطي" وينقل القضايا التي لا تخضع صراحة لقواعد منظمة التجارة العالمية الى خارج نطاق نظام تسوية النزاع الى لجان مكونة من عدة دول أعضاء في المنظمة، وهنا ستكون القضايا المثيرة للجدل خاضعة لمفاوضات لا أحكام أعضاء هيئة الاستئناف في المنظمة.وحتى في تلك الحالة فإن القضايا المتعلقة بشكوى الولايات المتحدة والتي تتمحور حول صعود الصين سيصعب علاجها لأنها تتطلب مفاوضات وتسويات صعبة ومؤلمة، لكن الجواب لن يتمثل على أي حال في الوضع الراهن في منظمة التجارة العالمية ولا في التخلي عنها بصورة تامة.• ويليس كرامهولز