ولدت الفكرة عند بحيرة جنيف والوقت مساء والمشاهد مشابهة للصور في "البوست كارد"، بعض البياض المتبقي من بعد شتاء مثلج وشجر بدرجات الأخضر مزين بكثير من ألوان الزهر الربيعية، ثم ينتقل المشهد إلى البحيرة حيث كنا، هناك ولدت فكرة رواية مشتركة ليست هي التجربة الأولى، بل كثيرون قاموا بها منذ سنين طويلة إلا أننا جميعا نتذكر تجربة "عالم بلا خرائط" لـ"جبرا إبراهيم جبرا، وعبدالرحمن منيف"، حيث كان المميز فيها أن الكاتبين المبدعين اشتركا في رواية، ولم يكن أحد من القراء قادراً أن يعرف من كاتب أي فصل، خصوصاً أنهما لم يكونا في مكان جغرافي واحد.

قال ذاك الجميل كاسمه أليس للبعض نصيب من أسمائهم، هو كان نصيبه من اسمه كبيرا جدا، قال "إيه رأيك في رواية مشتركة يا بت"، وتسمية "بت" هو اسمي الذي أعطاني إياه منذ سنين طويلة، لم تعجبه ضحكتي فصرخ "أنا بتكلم جد" ودخلنا في نقاش طويل لم أستطع أن أقنعه أنه من أهم الروائيين العرب، وأنا لست حتى في درجة مبتدئة، بعد أن تعب من النقاش، قام فجأة واتجه نحو كشك قريب، وعاد بعلبتين من الآيس كريم، بعض منه توقف عند سنة المراهقة وربما الطفولة، سخرتُ أنا من رشوته، وهذا أيضا لم يعجبه، وعاد إلى الحوار، وطلب أن أمسك بورقة وقلم، وأن أبدأ بالكتابة ونحن هناك وساعات المغرب تقترب، لكن شيئا من العتمة لم يقترب من تلك الدائرة التي كنا فيها. من هناك بدأت الفكرة ومضينا فيها، فصل من عنده وآخر مني، وكل في مدينة أو ضاحية أو قرية، ولكن في مرحلة ما سرقتنا الأيام إلى مفترقات مختلفة، هو في عمله الصحافي الذي كان بالنسبة إليه شريانه المتبقي مع مصر، كما أنه ومع الوقت بدأ يتعب من عينيه ونظره يتلاشى تدريجيا.

Ad

جميل عطية إبراهيم ودعنا بالأمس، وبقي خبر وفاته مدسوساً بين كثير من قوائم الوفيات بسبب ذاك الفيروس، حتى أصبحت نشرات الأخبار كأوراق النعي، جميل صديقي الذي أفتقده حتى الوجع، رحل هكذا في مكان بعيد عن ذاك الدفء المتوهج في شوارع القاهرة القديمة، حيث كان يقضي معظم إجازاته، صديقي الذي لم أره رغم محاولاتي وكل الأصدقاء المقربين لاختفائه بسبب المرض ربما، أو يمكن لأنه لم يشأ إلا أن تبقى صورته مع ضحكته المدوية وجسده الصغير يهتز حتى يصاب بنوبة من السعال والسيجارة لا تسقط من بين أصابعه يمسك بها وكأنه ممسك بالزمن لا يريده أن يتحرك.

كلما أتى الربيع غط ذاك الطائر الطيب الجميل في مدينته حتى عندما ضعف نظره لم يتوقف عن الزيارات المطولة، يرن الهاتف فيأتي صوته "يا بت أنا وصلت القاهرة لازم أشوفك"، فيكون اللقاء على مائدة محاطة بكل الكتاب والفنانين في قهوة زهرة البستان، يدير ظهره لكل الشلة، ويهطل مطر الأسئلة من بعض الغزل المغلف بالفضول إلى الاطمئنان على العمل والصحة والعاطفة! ثم وبعد بداية تلك الرواية التي لم تكتمل نعود لها ويدخل في نقاشات تقنية وأخرى تطول الشخصيات في الرواية، وبين بين يضحك، وفجأة يصرخ في النادل "جيب شاي كشري على ميه نظيفة يا...". يجري ذاك النادل الذي حفظ كل الطلبيات "حلبة" أحيانا وقهوة بوش كثيرا، لا يكمل جمله لكثرة التحية والسلام من كل الرواد التقليديين لتلك القهوة، أو حتى الكثير من الشباب المارين في الطريق، الذين ينظرون إلى تلك القامة الأدبية بكثير من الاحترام والتقدير وهو يبقى على تواضعه وبساطته التي لا تمت للكثير من الكتّاب بصلة.

جميل ابن الجيزة، المصري حتى آخر ضحكة، والروائي والكاتب والمحب والصديق الصدوق وكل صفات الجمال، رحل هكذا بعد وقت من بحثنا عنه ومحاولاتنا لزيارته فقط لنقول له "أنت معنا وستبقى رغم البعد".

في إحدى المرات وعلى غير عادته اتصل من سويسرا وردد ونحن لا نزال ننقش في تلك الرواية التي لم تكتمل ولن تكتمل، مطالباً بأن أتواصل مع دور النشر لمعرفة من سيكون على استعداد لنشر هذه الرواية، لم أعرف أن أتواصل مع أحد أو ربما لم أحاول بكثير من المثابرة، وفي صباح يوم جمعة جلست أتصفح الجرائد وكانت الأهرام والصفحة الثقافية، صفحة كاملة للفصل الأول من الرواية المشتركة للروائي المصري جميل عطية إبراهيم... رحل جميل وروايتنا لم تكتمل.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية