رحل عنا بالأمس القريب، الصديق وزميل المهنة، وجار الممر، لأكثر من ٣٥ عاماً، شملان العيسى. بدأ تعبه الأخير يشتد مع اشتداد "كورونا"، وكأنه يبحث عن شيء يقوله في هذا الزمن التائه والغائب عن الوعي. كم أتعبه الزمن، رغماً عن الأشياء! فتعبه الأخير لم يكن إلا محطة. محبته للحياة استمرت حتى في أحلك الظروف.

داهمه المرض اللعين، فغادرنا إلى الولايات المتحدة للعلاج في ٢٠٠٦. وحين أبلغه الأطباء بأن أمامه بضعة أشهر ليعيش لم يجزع. بل يبدو أن ذلك الإنسان المسالم كان يخفي داخله قوة لا يدركها الناس. عاش حياته، رغماً عن الأذى، ١٤ سنة، عاشها كما يحب. ويبدو أن تقديرات الأطباء لم تكن تنطبق على إنسان كشملان، وهكذا كان، إلى أن قضى الله أمراً كان مفعولاً.

Ad

شريط الذكريات معه لا ينتهي، على مدى أربعة عقود، سأختار منها حادثة، لأنها تذكرني بفقيد له مكانة كبيرة عندي، ولأنها تؤصل موقفنا من الفضاء العام. فمنذ سنوات وقفنا معاً وقفة مطلبية، وما أكثر ما اشتركنا في وقفات أغلبها للدفاع عن قضايا عامة، أو تعزيز مواقف إنسانية، أو التضامن مع محبوسين تعسفاً، من أمثال خلدون النقيب وأحمد البغدادي، رحمهما الله.

كانت تلك الوقفة مختلفة. كان عددنا قليلاً، في شارع الصحافة، للمطالبة بتسمية الشارع باسم أحد أعمدة الصحافة في البلاد، الإنسان الجميل محمد مساعد الصالح، رحمه الله. كنا نظن أن تجمعنا ليس فيه ضرر لأحد، فلم نقطع طريقاً، ولم نزعج جيراناً، حيث لا يوجد جيران. إلا أننا فوجئنا بالشرطة تطوقنا وتطالبنا بالرحيل وفض التجمع، هكذا اعتبرت السلطة حينها، تجمعاً سلمياً لعدد من الشخصيات العامة، لإيصال رسالة بسيطة، مخالفاً للقانون. أحزنني موقف السلطة، الذي يدل على الضعف أكثر مما يعبر عن قوة. كنا يداً بيد مع شملان، اتفقنا أننا لن نتحرك إلا بعد مضي الساعة الرمزية، التي قررناها سلفاً، مضى منها ٣٥ دقيقة. فهل يجوز أن يتم منع تجمع سلمي صغير، لمدة بسيطة ودون تعرض لأحد، ودون تأثير على السير، للتعبير عن رأيهم وإيصال رسالتهم بقضية عامة؟ بالطبع أوضاع الحريات يرثى لها.

وهكذا كان، أكملنا ساعتنا المقررة وغادرنا بسلام، ولم تكترث السلطة وتُسمِّ الشارع باسم أبو طلال، رمز الصحافة الكويتية. لم يكن شملان إلا "عود من عرض حزمة"، غير أنه كان له تفرده، ساخراً لدرجة لا يفهمها الآخرون، وربما يفسرونها أكثر مما ينبغي، إلا أن نزعته الإنسانية ونبذه لخطاب الكراهية وعدم قبوله للتمييز كانت سماته الغالبة.

ربما زادنا حزناً، بسبب قيود "كورونا"، ألا نتمكن من القيام بواجب العزاء، وتوديعه وداعاً يليق به. كم هو قاس ذلك العالم، الذي يمنعك من الوقوف على قبر صديق! وداعاً أخي شملان، ولْيرحمك الله، ويلهم أهلك ومحبيك، وأنا منهم، الصبر والسلوان.