بدأ تعبير "عالَم ما بعد كورونا" يحضر بشكل ملموس في وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، إضافة إلى شبكات التواصل الاجتماعية، بين مُعارض يرى أن الوقت جد مبكّر لترويج هذا التعبير، وآخر يبشّر بالاستحقاق.وقد كتبتُ في هذه الزاوية 3 مقالات سابقة تباعاً بعنوان "لون الغد"، أتناول فيها ما يبدو لي من تغيّرات تلوح ملفوفة بسرّها في أفق القادم من الأيام. سيبقى الشرق شرقا والغرب غربا، وستبقى جغرافية العالم كما هي اليوم، لكن هذا الشرق وذاك الغرب، وتلك الجغرافية سيمسّها لونٌ عيش جديد بعد "كورونا". لن يستيقظ البشر يوماً وقد تغيّر كل شيء من حولهم فجأة، فسنّة الحياة أن تغيّراتها الأهم تحدث بشكل جدّ متدرج، فليس من إنسان قفز من عُمر إلى عمر، هي السنة والشهر والأسبوع واليوم والساعة والدقيقة والثانية، تتراكم بهدوء لنكتشف أن العمر يسير، وأن الصغير قد كبر، وأن الكبير قد طعن بالعمر.
وهكذا ضياء النهار لا يبزغ فجأة، ولا هو مدّ البحر يطفح بالشاطئ في طرفة عين، وكذا زحزحة العادات الاجتماعية القديمة المستقرة، واستبدالها بالجديد. لذا من المؤكد أن ما سيحدث خلال الأشهر القادمة وحتى إطلالة عام 2021 سيكون تراكماً كمّياً كافياً لإحداث التغيرات.المليارات التي ضخَّتها الدول لإسعاف حاجتها وتطويق الجائحة ألقت بظلالها على مختلف مناحي الحياة، وهذا في حد ذاته كاف لأن تجد الدول، جميع دول العالم، نفسها أمام واقع اقتصادي مُنهار ومضعضع يستلزم اتخاذ إجراءات قسرية قد تكون جدّ قاسية للمرور بالبلاد والعباد إلى بر الأمان. ويكفي أن نتأمل مشهد ملايين العاطلين عن العمل، الذين رمى بهم فيروس كورونا خارج مقار أعمالهم، أو أولئك الذين رحّلهم كورونا فجأة وبقسوة ليعود بهم إلى أوطانهم ومن دون قوت يومهم. رحيل "كورونا"، الذي تشير التوقعات المتفائلة إلى أنه سيكون مع نهاية هذا العام، سيكون كفيلا بأن نجد أنفسنا وقد لبسنا ثوباً جديداً في تفكيرنا وقناعاتنا وسلوكنا وممارساتنا ليومنا. وإذا كانت الوحدة الرئيسية التي اشتغل عليها "كورونا" هي الإنسان، فإن مسلك الإنسان هو أكثر ما سيكون وضوحاً في تبدّله وتغيّره."كورونا"، وفي أسوأ ما عمل، إنما رسّب خوفاً بداخل كل منا تجاه الآخر؛ خوف من الإنسان لأخيه الإنسان، خوف غير مرئي، لكنّه كفيل بأن يخلق مسافة بينهما، مسافة يملأها هواء التوجس والبُعد والقطيعة. سيتردد ملايين البشر في احتضان وتقبيل أقربائهم وأصدقائهم، وسيتردد عشّاق كثر، لحظة يحلمون بتقبيل حبيباتهم. وستنتصب مسافة قاسية بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، بين دول أوروبا ومعها أميركا وكندا، وربما روسيا والصين ودول شرق آسيا، حيال شعوب الشرق الأوسط، وحيال الشعوب العربية تحديداً. سيمرُّ "كورونا"، وتأتي لحظة تأمل مؤلمة، لحظة يقف فيها الآخر في الشمال بكل فئاته وأطيافه، ناظراً صوبنا في الجنوب، صوب العرب، قرابة (362 مليون نسمة)، يقف الآخر وقد شخص به السؤال: ما الذي فعله أهل الشرق العربي للعالم لحظة "كورونا"، وبماذا أسعفوه؟ وكم تبدو الإجابة واضحة وقاسية علينا كشعوب عربية. فنحن الآن، في زمن "كورونا"، خارج اللحظة الإنسانية! جميع شعوب وأمم الأرض، نادت وأدخلت أبناءها العلماء إلى مختبراتهم، ووقفت متعجلة "تسترق السمع" لنتائج بحوثهم وتجاربهم بغية أن يكتشفوا علاجاً ووقايةً تقف في وجه فيروس كورونا، إلا نحن الشعوب العربية، نقف مكتوفي الأيدي! وكأن لا جامعات ولا معاهد ولا مؤسسات علمية لدينا! أو كأن عقل الإنسان العربي أعجز من أن يبحث عن دواء وأسلوب وقاية من الوباء! قد يقول قائل إن علماءنا يعملون في مختبرات العالم، وهذا لا يغيّر في الأمر شيئا، بل يؤكد أن البيئة العربية طاردة لأبنائها العلماء.نعم، نحن أبناء الشعوب العربية، نبدو خارج لحظة الزمن! نكتفي بأن نلاحق أخبار "كورونا" مرددين: لعل الآخر، وأياً كان هذه الآخر، يكتشف العلاج فنركض صوبه!كيف تراه العالم سيقيّم وقفتنا السلبية هذه؟ وأي انعكاس سيتولد على العلاقة بين الشمال والجنوب، بين العربي والأجنبي، وفي مختلف مناحي الحياة؟
توابل - ثقافات
لون الغد-4
15-04-2020