العالم بعد كورونا إما ثورة اجتماعية أو الفاشية
مثلما كشف وباء كورونا عيوب النظام النيوليبرالي العالمي فإنه عرى وفضح السياسات العنصرية وأنماط التسلط والهيمنة الاقتصادية والسياسية، وأظهر الوباء قصور السياسات العالمية في معظم دول العالم، عن توفير الموارد للصحة، والتعليم، والبحث العلمي. وجاءت فداحة الكارثة التي حلت بالبشرية جمعاء لتجرم المنظومة القائمة على قياس كل شيء بمنظار الربح الرأسمالي، مما أدى سابقا إلى إغلاق آلاف المستشفيات، وإفقار مئات مراكز البحث العلمي والجامعات، وحصر الاستثمارات في ما ينتج ربحا فقط، دون أدنى احترام لصحة الإنسان وسلامته باعتبارها الربح الأكبر للبشرية.وقد صار مؤكدا أن كارثة كورونا ستؤدي إلى أزمة اقتصادية عالمية غير مسبوقة، وخسارة تقدر بتريليونات الدولارات، وكساد قد يفوق الكساد العالمي الكبير عام 1929، والذي أنتج الفاشية، والنازية، والحرب العالمية الثانية.
كل ما جرى يؤكد الحاجة إلى ثورة اجتماعية عالمية شاملة تعيد توجيه مسار البشرية نحو العدالة الاجتماعية، وتطوير المؤسسات والقدرات الصحية، ومراكز البحث العلمي، ثورة تعيد هيكلة النظام الاقتصادي العالمي بما يوقف تلوث البيئة، ويكرس الموارد للوقاية من أي أوبئة أو كوارث طبيعية محتملة.ومثلما اجتاح وباء كورونا العالم دون اعتبار لحدود أو جدران أو حواجز، فإن مواجهة آثاره لا يمكن أن تُحصر في بلد أو بلدان، بل لا بد أن تكون عالمية في عصر صارت معه البشرية تعيش في قرية عالمية اسمها الكرة الأرضية. لكن يخطئ من يظن أن القوى الاستغلالية، والعنصرية، والاستعمارية ستستسلم للتغيير بسهولة، ولا شك أنها ستحاول استخدام كل قوة ممكنة للحفاظ على مصالحها الأنانية، وهل هناك دليل على ذلك أفضل من سلوك دونالد ترامب الذي ارتكب خطيئة تجاه شعبه بتجاهل تحذيرات الخبراء والأطباء من انتشار وباء كورونا، وتقاعسه عن القيام بالإجراءات الوقائية نزولا عند أطماع داعميه من كبار الاحتكاريين؟ وبدل أن يعترف بأخطائه يواصل بأسلوب هستيري البحث عن أكباش فداء لإلقاء اللوم عليهم، بموت آلاف الأميركيين وإصابة مئات الآلاف بالوباء، فمن مهاجمة الصين وتسمية وباء كورونا بالفيروس الصيني، إلى مهاجمة حكام ولاياته، وأخيرا الهجوم على منظمة الصحة العالمية، وارتكاب أم الخطايا بقطع التمويل عنها، في وقت تقود فيه المواجهة العالمية لوباء كورونا، وهذا الاتجاه الخطير يمكن بسهولة أن يتحول نحو الفاشية لحماية مصالحها كما جرى في ثلاثينيات القرن الماضي.لن تستطيع قوى التغيير لمصلحة البشرية والإنسانية أن تواجه وتنتصر على غوغائية وشعبوية ترامب وأمثاله، إلا بتنظيم نفسها شعبيا وسياسيا، وتبني نهج تغيير ثوري وجذري، ولن يستطيع شباب وشابات العالم أن يحموا مستقبلهم وإنسانيتهم، من توحش النيوليبرالية ومخاطر الفاشية، إلا إذا انخرطوا في حركات اجتماعية، وتنظيمات سياسية تكافح من أجل مستقبل أفضل للبشرية. أخطأت البشرية خطأ فادحا عندما تسامحت مع صعود النازية بعد الأزمة العالمية عام 1929، فدفعت ثمنا باهظا بمقتل خمسة وثمانين مليون إنسان، وتدمير آلاف المدن والقرى خلال الحرب العالمية الثانية، ولا يجوز أبدا التقليل من احتمالات ظهور نزعات فاشية خطيرة، فبوادر ذلك كانت واضحة في تصاعد الشعبوية والتطرف العنصري البغيض في الولايات المتحدة، وعدد من البلدان الأوروبية، وفي تعاظم ظواهر كره الأجانب، واللاجئين، والمهاجرين، وفي التسامح مع ظهور نظام أبارتهايد عنصري جديد على يد حكام إسرائيل.ليس أمام العالم بعد جائحة كورونا إلا أحد طريقين: إما ثورة اجتماعية تحقق العدالة الاجتماعية والإنسانية، وإما مواجهة خطر صعود الفاشية من جديد. * الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية