لماذا نستخدم مصطلح الجائحة؟
في إطار أزمة وباء كورونا المستجد، تسلّل بهدوء مصطلح غريب، لا دلالة له، ثقيل المنطق، والأهم أنه لا علاقة له بشرح الوباء؛ سواء أكان مستجداً أم غير ذلك، هذا المصطلح هو "جائحة".اعتدت منذ زمن طويل على تفكيك المصطلحات المستخدمة، فلها أهمية كبرى في فهم الأمور. الملاحظ أنه خلال الأزمات يتم دخول كلمات كثيرة جديدة، أو يتم تغيير معانيها، وأزمة "كورونا" ليست استثناء.ولعل متابعة المصطلحات مفيدة بدرجة تكشف حجم التناقض بينها، مثل استخدام مصطلح "العهد الدولي" بدلاً من "اتفاقية دولية". أراد من ابتدع مصطلح "جائحة" أن يتناغم ويتوافق مع المصطلحات الأكثر دقة باللغة الإنكليزية، مثل epedimic، وهو الوباء، ومصطلح pandemic، وهو الوباء المستجد سريع الانتشار.
ويبدو أن أحد أسباب تخلُّفنا عن الرّكْب يكمن ضمن أمور أخرى في عدم قدرتنا على ضبط المصطلح والدلالة على المقصود منه، فعندما نتناقش لا يكون بالأساس مجال للحوار، لأن كلاً منّا لديه مصطلحاته الخاصة وفهمه الخاص للأمور.وبناء على بحشث المسألة اتضح أنه ربما كان أول ذكر موثّق لمصطلح جائحة في سنة ٤٠٣ قبل الهجرة، أو ٢٣١ ميلادية ببيت شعر لهناءة الأزدي:حلّت على مالك الأملاك جائحة هدّت بناء العلا والمجد فانفصدا كما جاء ذكرها بالحديث النبوي في صحيح مسلم: "لو بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة، فلا يحلّ لك أن تأخذ منه شيئاً" (سنة ١١ للهجرة و٦٣٢ ميلادية).وبالتالي، فإنّ كلمة جائحة المقصود بها النازلة والمصيبة، أما فقهياً فهي تركّز على المال والثمار. ولا يوجد في الاستخدام اللغوي باللغة العربية أيّ علاقة بين الجائحة والوباء؛ مستجداً كان أم غير ذلك. كانوا في السابق يصفون الأوبئة بالطاعون، حيث وصفه ابن خلدون بـ "الطاعون الأسود"، وأسماه ابن حجر العسقلاني بـ "الطاعون الجارف"، وله فيه كتاب "بذل الماعون في فضل الطاعون"، وكذلك ابن قتيبة، الذي أفاض بأن بعض السلاطين كانوا يستغلون الطواعين باستيلائهم على أموال المتوفين الذين لا وارث لهم، وإيداعها في صندوق مالي خاص.ويُذكر أن الدولة الأموية دمّرتها الأوبئة، حيث كان يحل كل ٤ سنوات تقريباً، وراح ضحيتها الكثيرون، مثل عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز، كما ذهب بالطاعون عدد من الصحابة، مثل المغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه. ويُذكر تصاعد التذمّر أيام الحجاج من اجتماع وطأة بلاء الوباء، وقسوة حكم الحجاج، فقيل: "لا يكون الطاعون والحجاج". الشاهد أنه لم نأت في أي من كل هذه المصادر على ذكر كلمة "جائحة"، فمن أين جاءوا بها؟ ولم ترد كلمة جائحة في عصرنا الحديث، كما يبدو، إلا بترجمة رواية "الحب في زمن الكوليرا" لماركيز، حسب استخدام المترجم المتمكن صالح علماني.ما هي أهمية دقة المصطلح؟ لا تقتصر المسألة على فهم المعنى، والاختلاف حوله، ولكن ستترتب التزامات، وتجهيزات، وترتيبات، ورصد ميزانيات، حسب المصطلح ودرجة دقته.فهناك فرق مثلاً بين outbreak وهو التفشي، وepedimic وهو الوباء، وpandemic وهو الوباء المستجد، الذي اختاروا له كلمة لا تعنيه ولا أساس لها من المعنى، وهي جائحة، بل هي خارج اللائحة.