المرتب الوطني والأجيال القادمة
حدد المرسوم الأميري رقم 106 لعام 1976 هدف احتياطي الأجيال القادمة بأنه "لتأمين مستقبل الأجيال، لأن إيرادات النفط ناضبة"، وترك توضيح عبارة "تأمين مستقبل"، وتعريف "الأجيال" للاجتهاد. لذلك أكتب هنا بافتراض أن الاحتياطي ليس لمجرد الصرف على الأجيال بعد النفط، بل للصرف على تنمية قدراتهم، وتهيئتهم لفترة ما بعد النفط.تشخيص المشكلة
حين نقرأ ونسمع عن حال الشعوب وما أصابها من أضرار نتيجة لوباء كورونا، نحمد الله علي حالنا. لأننا في بيوتنا المريحة محجورين ومستمتعين بالجو الجميل مع أحبابنا. مع الأسف لا نستطيع مشاهدة مباريات كرة القدم، ولكننا نلعب كوت، ونقرأ، وأحيانا نطبخ. الجمعيات مليئة بما لذّ وطاب، ورواتبنا تم سدادها بالكامل، وتم تأجيل أقساط البنوك والتأمينات. ما كان ينقصنا سوى إضافة جبن كرافت الى مواد التموين، وقد تحقق ذلك أخيرا.ولكن الى متى يمكن لهذه النعمة أن تستمر؟ يذكّرنا المرسوم بأن إيرادات النفط ناضبة، وليس سرا أن معدل إنتاج المواطن في عمله خلال فترة الدوام لا يزيد كثيرا عن أدائه خلال إجازة "كورونا".أما ثروتنا النفطية، وسبب بحبوحتنا على مدى 60 عاما مضت، قد فقدت أكثر من نصف قيمتها خلال شهرين فقط بسبب انهيار الطلب. مدخراتنا ومن ضمنها أموال الأجيال القادمة التي نحتفظ بها في الأسواق العالمية، فقدت جزءا كبيرا من قيمتها خلال الربع الأول من هذا العام.إنها طبيعة الاحتياطيات المخزونة تحت الأرض أو في الأسواق المالية، لا نعرف كم ستكون قيمتها عند الضرورة وإن كانت كافية. لذلك لا مفر من العودة الى الاحتياطي البشري. إنه الجيل الذي تحتكر الدولة طاقته بمسمى وظيفي ومرتب جيد، دون عمل يشغله بما يفيد."كورونا" لم تكن الأزمة الأولى التي تصيب الكويت، ولن تكون الأخيرة. لأن الأخيرة في نظري ستكون الكارثة القادمة، ما لم نواجه العجز المتوقع في الميزانية بذات الجدية والحرفنة التي أصبحنا نتوقّعها من حكومتنا الحالية. إننا لسنا بحاجة إلى إعادة اختراع العجلة، ولا لخبراء صندوق النقد الدولي. العجز القادم في الميزانية، والتركيبة السكانية، وتجارة الإقامات، والفساد، والتعليم، والهدر، كلها نتائج للمشكلة الحقيقية، التي سيكون علاجها مرا تزداد مرارته كلما تأخرنا في العلاج. المشكلةإن مشكلتنا الأساسية التي تقف حجر عثرة أمام الإصلاح والتنمية، لأن القيادة السياسية تجنبت التعامل معها ربما بسبب الوفرة المالية، هي حجم الجهاز الوظيفي الذي يستنزف من الرواتب والدعوم حوالي 18 مليار دينار سنويا من ميزانية الدولة، تصرف دون سؤال أو حافز لتخفيف الهدر والفساد. لا بدّ من وسيلة لتقليص الجهاز بطريقة تحفظ كرامة المواطن وتحافظ على مستواه المعيشي.الحلماذا لو قررت الحكومة إلغاء كل الدعوم، وأصبح على المواطن دفع القيمة العادلة للخدمات من كهرباء، وماء، ووقود، وتموين، الخ.. مقابل أن تدفع له الدولة ما يعادل حصته من تلك الدعوم؟ماذا لو قررت الحكومة، بعد تجاوز فترة الذروة للإصابات بفيروس كورونا وبداية انخفاض أعداد المصابين، دعوة 25 في المئة فقط من جهازها للعودة إلى الدوام في جميع المرافق، مع استمرار فترة الراحة للبقية، منعا لانتشار الوباء؟ماذا لو اكتشفت الحكومة بعد ذلك أن الـ 25 بالمئة قد أثبتوا قدرتهم على القيام بكل الخدمات التي كان يقدّمها جهازها الكامل وبكفاءة، فقررت الاستغناء عن خدمات بقية الجهاز، مع الالتزام بالاستمرار بدفع الراتب الأساسي للمواطنين منهم، لفترة خمس سنوات على سبيل المثال، علما بأن عددهم سيكون حوالي 300 ألف موظف معظمهم من المواطنين.حينها تكون الدولة قد جمدت بنود الرواتب والدعوم من الزيادة، وحافظت على مستوى المعيشة للمواطن، وعلى مستوى الخدمات التي تقدمها بكادر صغير نسبيا يكفي حاجتها، ويمكن مراقبته بسهولة. وساهمت في انكماش بؤر الفساد لتسهيل محاربتها. وفي نفس الوقت منحت المواطن حافزا قويا لتخفيض الهدر في استهلاك الكهرباء والماء والوقود، لأن ما سيوفره سيبقى في جيبه. لم تعد هناك حاجة إلى العدد الهائل من الإدارات واللجان والهيئات والفراشين والمناديب والمباني الحكومية. والأهم من ذلك كله، تحرير عشرات الآلاف من المواطنين الشباب من روتين ومسرحية الوظيفة الحكومية لحثّهم على العمل الحقيقي المنتج من خلال وظائف وأعمال جديدة، عليهم ابتكارها وعلى الدولة تشجيعهم.أعلم أنني بهذه المبادرة قد تطاولت على احتياطي الأجيال القادمة، لكن ذلك ضروري أولا للتخفيف من مرارة العلاج والمحافظة على كرامة المواطن، مع منحه فترة معقولة ليتكيف مع الوضع الجديد. وثانيا إننا بهذا المبادرة نؤمّن مستقبل الأجيال القادمة بتنميتها وتأهيلها لفترة ما بعد النفط، حسب الهدف المحدد بالمرسوم أعلاه.آخر الكلاملا شك في أن اختيار الوقت المناسب للبدء بتطبيق الإصلاحات الهيكلية، قد يكون من أهم عوامل نجاح المبادرة. لذلك أرى أن الوقت الحالي مناسب جدا، وسوف يتقبله المواطن بحماس تقديرا للظروف، وقناعته بفعاليته لتنمية جيل يحمي الكويت ويحافظ عليها. جيل جديد قادر على مواجهة الأزمات القادمة.