كأنّ العالم كان يحتاج إلى من يذكّره بتدهور العلاقات العابرة للأطلسي! جاء فيروس كورونا الجديد ليوضح صراحةً إلى أي حد ساءت العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، بعد سنوات من المشاكل المشتركة، بسبب الإنفاق الدفاعي والتجارة ومسائل معقدة أخرى، أدى اختلاف الاستجابات الوطنية تجاه الأزمة الأخيرة إلى تأجيج الاضطرابات، وفي ظل نقص الإمدادات الطبية، عمدت الولايات المتحدة وأوروبا إلى التركيز على أوضاعهما الداخلية، فأمرت واشنطن شركة 3M بوقف تصدير الأقنعة الطبية وتغيير مسار إنتاجها الخارجي لمصلحة الولايات المتحدة كجزءٍ من جهود واسعة لتلبية الطلب المحلي. في المقابل، منع الاتحاد الأوروبي تصدير دروع الوجه والقفازات والأقنعة والمعدات الواقية للسبب نفسه، إذ تُهدد سياسات إفقار الجار هذه بتفاقم حصيلة الفيروس، على صعيد آخر، أدى قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمنع رحلات السفر عبر الأطلسي بطريقة أحادية الجانب إلى إثارة غضب القادة الأوروبيين، فتذمروا من امتناع الولايات المتحدة عن التشاور معهم قبل اتخاذ قرار مماثل.لكن يُفترض أن يكشف هذا الوباء عن حقيقة مهمة أخرى: يبقى التعاون العابر للأطلسي أساسياً لإيجاد حلول فاعلة للتحديات التي تواجهها الولايات المتحدة وأوروبا والعالم أجمع، حتى لو أطلق الوباء أحدث جولة من الاضطرابات العابرة للأطلسي إذاً، يجب أن يشكّل الوضع الراهن فرصة لتشجيع البلدان على تجاوز الخلافات المستمرة والتركيز على مشروع جديد لإطلاق استجابة مشتركة ضد الوباء. إنه الوقت المناسب لتحسين السياسات المعتمدة وتجديد حس التضامن العابر للأطلسي وضمان استمراره في مرحلة ما بعد الوباء.
أصدقاء بحاجة إلى المساعدة
أول ما يجب أن تفعله الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هو إلغاء الحظر على الصادرات والرسوم الجمركية على المعدات الطبية، ففي شهر مارس الماضي، منع نحو 36 بلداً تصدير منتجات أساسية مثل أقنعة المستشفيات والملابس الطبية الواقية ومعدات شخصية أخرى، تشكّل أوروبا المصدر الأساسي لاستيراد أقنعة التنفس وآلات التصوير بالأشعة المقطعية ومعقمات اليد وأجهزة مراقبة المرضى ومعدات الأشعة السينية إلى الولايات المتحدة، لذا ستكون أي نزعة حمائية إلى الحد من هذه العمليات التجارية انهزامية وستهدد حياة الكثيرين على طرفَي الأطلسي.أدت هذه الحواجز التجارية أيضاً إلى تضرر التحالفات القائمة، ففي المراحل الأولى من انتشار فيروس كورونا، منعت فرنسا وألمانيا تصدير المعدات الطبية اللازمة إلى دول أعضاء أخرى في الاتحاد الأوروبي، مع أن هذا الاتحاد يُفترض أن يشكّل سوقاً موحداً، ولم ترفع الحكومة الفرنسية قيود التصدير التي فرضتها على الأقنعة والقفازات المطاطية إلا نتيجة الضغوط التي مارسها المسؤولون السويديون، وذكّرت وزيرة الخارجية السويدية آن ليند نظراءها في الاتحاد الأوروبي في إحدى تغريداتها بأهمية إثبات "فاعلية السوق الداخلي حتى في أوقات الأزمات"، وفي غضون ذلك تباطأت الولايات المتحدة في تقديم المساعدة إلى نظرائها، بما في ذلك إيطاليا، حليفتها الأوروبية التي واجهت أسوأ تداعيات الوباء على الإطلاق.أنتج هذا الواقع القاسي شرخاً سارعت روسيا والصين إلى استغلاله، ففي 22 مارس، أرسل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تسع طائرات محمّلة بإمدادات طبية إلى إيطاليا، بعد 24 ساعة فقط على مكالمته مع رئيس الحكومة الإيطالي جوزيبي كونتي. كانت المساعدات الروسية مثيرة للجدل، إذ تزعم التقارير أن معظم المعدات لم تكن نافعة، ومع ذلك، قَبِل الإيطاليون بتلك المساعدات بعدما شعروا بأن حلفاءهم التقليديين تخلوا عنهم، حتى الصين كانت أسرع من غيرها في التجاوب مع الوضع الإيطالي، فشحنت طاقماً طبياً متخصصاً وقفازات وأقنعة وأجهزة تنفس، أشاد لويجي دي مايو، وزير الخارجية الإيطالي، بتلك الجهود وعبّر عن سروره لوجود "أطراف في العالم مستعدة لمساعدة إيطاليا". كذلك، عبّرت بلدان أخرى، مثل جمهورية التشيك وفرنسا واليونان وإسبانيا، عن امتنانها على المساعدات الصينية، وبدأ الاتحاد الأوروبي يتحرك في شهر أبريل الحالي، فأعلن عن برامج دعم مالية واقتصادية وطبية، لكن سبق أن تضرر التماسك الأوروبي بدرجة فائقة.أيّد الأميركيون والأوروبيون نظاماً تجارياً مفتوحاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويجب ألا يسمح أحد لفيروس كورونا بتحطيم ذلك النظام عبر تأجيج الاضطرابات التجارية القائمة أصلاً بين الطرفين. بل يجب أن يكون الوباء فرصة لتجديد التزام البلدان العابرة للأطلسي بالمبادئ المشتركة المبنية على خدمة المواطنين والحلفاء. سيكون إلغاء قرارات الحظر والرسوم الجمركية الضارة خياراً صائباً على المستوى الجيوسياسي.تهديدات القرن الـ 21
يجب أن تستفيد الولايات المتحدة وأوروبا من انتشار الفيروس لتوسيع معاني الأمن القومي والدولي كي يشمل الصحة العامة، أوضح فيروس "كوفيد-19" أن جرثومة صغيرة قد تكون قاتلة بقدر الرصاص.للاستفادة من الوضع إذاً، يتعين على الولايات المتحدة وأوروبا أن تزيدا قوة حلف الناتو، سبق أن أثبتت هذه المنظمة أهميتها خلال الوباء الحالي، فنقلت معدات طبية عاجلة واستعملت قدرات النقل العسكري لديها في جهود الإغاثة، لكن نظراً إلى الحاجة الجماعية إلى المعدات الطبية خلال أزمة "كوفيد-19"، على الناتو أن يقدم مساعدة إضافية عبر توفير مخزونات للصحة العامة، إذا كان الناتو يستطيع تخزين المعدات العسكرية، يعني ذلك أنه قادر على تخزين المعدات الطبية بطريقة جماعية أيضاً، حتى أنه يستطيع أن يحث جميع الشركاء على توفير تلك الضرورات الطبية للآخرين عند الحاجة. لن يسمح هذا التحول بتوسيع التعاون في المجالات المناسبة فحسب، بل إنه سيقلّص التصدعات القائمة في التحالف الأمني العابر للأطلسي، فقد أدى التهافت على المعدات الطبية بين الدول الأعضاء في الناتو إلى تضرر التماسك بينها، واشتكى المسؤولون الفرنسيون والألمان مثلاً من تفوق جهود الشراة الأميركيين لتلقي الإمدادات، وفي وقتٍ سابق من هذا الشهر، اتهمت برلين الولايات المتحدة بمصادرة شحنتها المؤلفة من 200 ألف قناع في تايلند، ووصف وزير الداخلية الألماني، أندرياس جيزيل، ذلك الفعل بـ"القرصنة المعاصرة".على صعيد آخر، سيكون تكليف الناتو بتخزين الإمدادات الطبية كفيلاً بإعادة التأكيد على أهمية هذه المنظمة لمواجهة تهديدات القرن الحادي والعشرين، وخلال العقد الماضي، انهار الزخم العام تجاه الحلف، وبحسب بيانات مركز "بيو" البحثي، تراجعت الآراء الإيجابية تجاه الناتو بنسبة 16% في ألمانيا (من 73% في 2009 إلى 57% في 2019) وبنسبة 22% في فرنسا (من 71% في العام 2009 إلى 49% في العام 2019)، من خلال توسيع مخزون الناتو كي يشمل المعدات الشخصية الواقية وإمدادات طبية أخرى، يستطيع الحلف أن يتدخل ويقدم المساعدة في زمن الأوبئة، وسيثبت بذلك استعداده لحماية أعضائه من أخطر التهديدات الوجودية المعاصرة، سواء اشتقت من أعمال روسيا العدائية أو غياب الاستقرار في الشرق الأوسط أو انتشار وباء معيّن.مراقبة ديمقراطية
أخيراً، يجب أن يتعامل الأميركيون والأوروبيون مع الأوبئة الدولية المستقبلية عبر إنشاء نظام مشترك من المراقبة الطبية العالمية، وحين يرصد الحلفاء العابرون للأطلسي أي أمراض متفشية توشك على التحول إلى أوبئة على المستوى المحلي أو الوطني، يجب أن يكونوا مستعدين لإرسال فِرَق طبية سريعة لتقييم نطاق التهديد وطبيعة الاستجابة المطلوبة، ويجب أن ترتكز هذه السياسة على استراتيجية وبائية عابرة للأطلسي تُعرِّف معنى الوباء، وتوضح البروتوكولات اللازمة لاحتواء الأوبئة وتخفيف تداعياتها منذ مرحلة مبكرة، وتُفصّل طريقة التحكم بتفشي الوباء جماعياً في حال انتشاره في العالم أجمع. هذه المراقبة الطبية يجب أن تُلحَق بجهود مشتركة لمساعدة البلدان الأخرى على احتواء انتشار الأوبئة مستقبلاً، ويجب أن تصبح نواة نظام عالمي أكثر فاعلية تديره منظمة الصحة العالمية، إذ تفتقر هذه المنظمة راهناً إلى القوة والموارد لتشغيل نظام مماثل، ومن المتوقع أن يزيد وضعها سوءاً بعد قرار ترامب الأخير بتعليق تمويلها. وعلى الولايات المتحدة وأوروبا إذاً أن تكثّفا جهودهما لتعزيز دور منظمة الصحة العالمية عبر مبادرات مثل "مسؤولية الإبلاغ" العالمية الشاملة، وهو التزام يرتكز على التحذير المبكر وتتبناه الحكومات الوطنية والسلطات الصحية الإقليمية والمختبرات البحثية والشركات للإبلاغ عن تفشي أي أمراض وبائية.مع انتشار أزمة فيروس كورونا، أخذ المواطنون المبادرة، وحين بحثت الحكومة البريطانية عن متطوعين لمساعدة "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" على محاربة "كوفيد-19"، تَسَجّل أكثر من 750 ألف شخص خلال أربعة أيام، وهو أكبر عدد متطوعين منذ الحرب العالمية الثانية. في الوقت نفسه، يتجاوب أصحاب المليارات مع هذه الدعوة، فقد تعهد جاك دورسي، مدير تويتر التنفيذي، بتقديم مليار دولار للمساعدة في محاربة الوباء، لكنّ هذه المبادرات كلها لا تعوّض عن الفراغ الذي خلّفته الحكومات.حان الوقت كي تعتمد الولايات المتحدة على قدراتها القيادية العالمية الهائلة، وبالتعاون مع أقرب حلفائها في أوروبا، هي تستطيع إطلاق أكبر استجابة عالمية ضد الوباء تزامناً مع تشجيع الآخرين على التعاون معاً.بدأ المواطنون على طرفَي الأطلسي يدركون اليوم أنهم يحتاجون إلى التعاون الدولي أكثر من أي وقت مضى، وتوقّع هؤلاء المواطنون أن تحميهم حكوماتهم لكن يشعر الكثيرون بأن قادتهم خذلوهم خلال الوباء الحالي، لهذا السبب، ثمة حاجة عاجلة إلى تكثيف التعاون بين الحكومة الأميركية والحكومات الأوروبية الحليفة لمواجهة فيروس كورونا، تشكّل هذه المبادرات المقترحة طريقة للتعبير عن التضامن العابر للأطلسي الذي يحتاج إليه الحلفاء راهناً، حيث إنها آلية فاعلة أيضاً كي لا يواجه العالم نسخة مكررة من وباء "كوفيد-19" ولا يحارب الحلفاء الوباء المقبل وحدهم. *كارين دونفرايد، ولفغانغ إيشينغر