تحدثنا في المقال السابق عن نشوان الحميري وعن حياته ومؤلفاته التي من أهمّها قصيدته "النشوانية" التي وثّق بها ملوك امبراطورية حمير وأمرائها.

قال عنه جلال الدين السيوطي: "نشوان بن سعيد بن نشوان اليمني الحميري، أبو سعيد الفقيه العلّامة المعتزلي النحوي اللغوي".

Ad

كذا ذكره الخزرجي وقال: "كان أوحد أهل عصره، وأعلم أهل دهره، فقيهاً نبيلاً عالماً متقناً عارفاً بالنحو واللغة والأصول والفروع والأنساب والتواريخ وسائر فنون الأدب، شاعراً فصيحاً بليغاً مفوهاً، صنّف (كتاب) شمس العلوم في اللغة ثمانية أجزاء".

وقال عنه ياقوت الحموي في "معجم الأدباء": كان فقيهاً فاضلاً عارفاً باللغة والنحو والتاريخ وسائر فنون الأدب، فصيحاً بليغاً شاعراً مجيداً، استولى على قلاع وحصون، وقدّمه أهل جبل صبر حتى صار ملكاً، وله تصانيف أجلّها "شمس العلوم وشفاء كلام العرب من الكلوم".

وذكره كذلك العديد من الكتّاب والمؤلفين والمؤرخين، وأشادوا بقصيدته الشهيرة "النشوانية".

نبدأ الآن بذكر محطات من القصيدة وشرحها، وأولى هذه المحطات إشارته إلى نبي الله هود وابنه قحطان، وهو يتساءل:

أفأين هود ذو التقى ووصيه

قحطان زرع نبوّة وصلاح

والمعروف والثابت عند أكثر المؤرخين والنسابين أن هود هو نبي الله، وهو ابن عابر بن شالخ ابن ارفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام.

وقد اتفق كثير من العلماء أن أول نبي مرسل بعثه الله تعالى، بعد نوح عليه السلام، هو هود عليه السلام، وهو أبو العرب العاربة.

وطبقاً لبعض المراجع التاريخية، فإن هود وصى بنيه ووعظهم، وحذّرهم من فتنة الدنيا، وغرور إبليس وشروره، ثم أقبل على قومه (قوم عاد) يوصيّهم بعبادة الله وحده لا شريك له، لكنهم عاندوه، فأخذهم الله بعذاب أليم.

قال تعالى: "وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره"، إلى قوله "ولا تتولّوا مجرمين".

فكان جوابهم "يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين". فجاءتهم ريح عاتية أهلكتهم جميعاً.

يروي بعض الرواة أن قحطان بعد أن شاهد والده حزيناً على قومه قال يواسيه:

إني رأيت أبي هوداً يؤرّقه

حزن دخيلٌ وبلبال وتسهاد

لا يحزننّك إن خصّت بداهية

عاد بن عوص، فعاد بئسما عادوا

عاد عصوا ربهم واستكبروا وعتوا

عمّا نهوا عنه لا سادوا ولا قادوا

وهكذا نرى نشوان الحميري يؤرّخ أن بداية حمير كانت مع هود عليه السلام، والد قحطان، لكنه لم يكن ملكاً، ولم يؤمن به سوى عدد قليل من الناس.

توفي هود في أرض اليمن بمنطقة تسمى "الأحقاف"، ومن بعد هود، صار أمر قومه إلى قحطان الذي استمر على طريقة والده بالإيمان بالله وحده، وعبادته وطاعته.

ومن بعد قحطان أصبح يعرب سيداً على قومه، وهو أول من نظم الشعر الفصيح، كما يقول نشوان:

أم أين يعرب وهو أول معرب

في الناس أبدى النطق بالإفصاح

يقول بعض النسّابة القدماء إن يعرب بن قحطان بن هود هو أكبر أولاد قحطان، وهم يعرب وخيار وأنهار والمعتم والمناحي ولؤي وماعز وغاضب ومنيع وجرهم والملتمس والقطامي وظالم والغشيم والمغتفر وباقر، وأمهم امرأة من عاد، وكلهم أصبحوا ملوكاً بعد ذلك، ما عدا "ظالم".

وقد اشتُّق اسم "العربية" من اسم يعرب الذي عظّمه قومه، وحيّوه بتحية الملك "أبيت اللعن" و"أنعم صباحاً"، وكان ملكاً عظيماً لم يقم بالغزو والتوسع، بل اكتفى بما كان قد ورثه من والده وأجداده.

في المقال المقبل، سنتحدث عن وصية يعرب لأبنائه، وهي وصية وثّقها نشوان الحميري في عدة أبيات شعرية من قصيدته النشوانية.