برز تميز نزار قباني منذ صغره ببعض الطباع، التي يحملها عن التغيير؛ إذ تنقل هدباء قباني صورة من صور طفولة والدها، كما حدثتها جدتها (والدة نزار) قائلة: "كان نزار يحب استكشاف الأشياء وتفكيكها، وفي بعض الأحيان يقوم بتحطيمها، ما دفع والدته إلى الامتناع عن اصطحابه في زياراتها. بالإضافة إلى ذلك، أشعل نزار النار في ثيابه، ورمى نفسه من فوق سطح المنزل، وقص طربوش والده الأحمر، ومرة كسر ظهر سلحفاة تعيش في منزلهم بالمطرقة؛ ليعرف كيف تخفي رأسها، وكل ما كان يفعله من تحطيم وكسر سببه صوت في داخله يدعوه للتغيير دائماً، مما أتعبه وأتعب أهله أيضا، فسخطوا عليه جميعا، إلا إحدى عماته التي كانت تقول لهم (دعوه يحطم... دعوه يحطم... فمن رماد الأشياء المحطمة تخرج النباتات الغريبة)".ويقول نزار في إصداره "قصتي مع الشعر": "ليس عندي نظرية لشرح الشعر. ولو كان عندي مثل هذه النظرية، لما كنت شاعراً. إن المعرفة بما نفعله تعطل الفعل. تماماً كما يرتبك الراقص حين يتأمل حركة قدميه".
الشنق في الساحات
بقيت رغبة نزار في تفكيك وتحطيم الأشياء مستمرة، لكنْ في شعره، إذ تنقل عنه هدباء قوله بعد الحملة الكبيرة التي شنت عليه، إثر نشره قصيدة "خبز وحشيش وقمر": "رغم خوفي الذي اعتراني وأنا أتصور نفسي مشنوقاً في إحدى ساحات دمشق، فقد تولد عندي إحساس داخلي يدفعني للتحرش بكل الأشياء". وتتابع الحديث قائلة: كان يقول لنا دائما إذا لم نهدم الأفكار والمشاعر البالية فكيف نبني غيرها؟ وعندما كانوا يهاجمونه أحياناً على مشاعر الإحباط في شعره السياسي كان يقول: "هذا من حبي للوطن، فدون نقد وجلد ذاتي فلن ننهض أبداً".
ميلاد شاعر
وفي حادثة تصفها هدباء بأنها عرّفت عن أبيها كشاعر؛ أنه في سن السادسة عشرة، وخلال وجوده في رحلة مدرسية إلى إيطاليا، وبعد أكثر من عشرة أيام بدأت الحرب العالمية الثانية وباشرت جيوش النازية احتلال أوروبا قطعة قطعة، مما اضطر التلاميذ إلى البقاء في روما، ولمساعدتهم تم أخذهم إلى الإذاعة الإيطالية ليطمئن أهلهم عليهم، وسألوهم إن كان من بينهم من يستطيع كتابة رسائل موجزة للأهل، فاختاروا نزار الذي كتب أولى قصائده، التي كتبها متأثراً بجمال الرحلة البحرية وبالمشاهد الطبيعية الخلابة التي رآها من بحر وشواطئ وأمواج وأسماك، فتغزل بما وقعت عليه عيناه، فأذاعتها الإذاعة الإيطالية، وعرف وقتها أن نزار يكتب الشعر، خاصة بعد ترحيل السلطات الإيطالية لهم في الأسبوع الثاني من الرحلة، وعندما عاد إلى دمشق تلقى الكثير من الإعجابات من زملائه ورفاقه وأهله ومدير مدرسته (منيف العائدي)، الذي سأله عن القصيدة، مما لفت انتباه قباني إلى تأثر الناس عموما بكل فئاتهم بها، وكيف تصل كلماتها إليهم، فوجد في نفسه الدافع كي يستمر، بعد تمكنه من التأثير فيهم، فاعتبر تاريخ الخامس عشر من أغسطس عام 1939 تاريخا لميلاد نزار الشعري.ويقول نزار عن تلك الحادثة: "للمرة الأولى، وفي سن السادسة عشرة، وبعد رحلة طويلة في البحث عن نفسي نِمتُ شاعراً".اللغة الفرنسية
درس نزار في الكلية العلمية الوطنية بدمشق، من سن السابعة حتى الثامنة عشرة من عمره، وحصل على شهادة المرحلة الثانوية (البكالوريا) الفرع الأدبي، إذ كان يقصد هذه المدرسة أولاد الطبقة البرجوازية الصغيرة، والتي اتخذت خطا وسطا مقارنة بالمدارس الأخرى (القريبة من التبشيرية) -زمن الانتداب الفرنسي لسورية- بين اللغتين الفرنسية والعربية، إذ كانت المدارس مجبرة على فرض اللغة الفرنسية، فتستقدم من فرنسا أساتذة القراءة والتاريخ وغيرها من المواد التي أُلفت كتبها وفقا للمنهاج الفرنسي، وقد تركت تلك المدرسة في قلب القباني الأثر الكبير الذي حمله معه إلى كل مكان، من بيروت إلى فرنسا وبريطانيا وغيرها، حيث كان موقعها قرب منزل نزار بخطوات قليلة في قلب دمشق، ترتفع من حولها مآذن الجامع الأموي وقبابه، ولابد لك أن تمر عند الذهاب إليها بقصر العظم الأثري المُطعم بالكامل بالرخام، والمنقوش على سقوفه الخشبية زخارف دمشقية وآيات قرآنية، كما يحيط بها الأسواق الشامية المقبية من سوق الحميدية الى سوق مدحت باشا وسوق الصاغة وسوق الحرير وسوق البزورية والخياطين والقطن وسوق النسوان، فتمتزج روائح أسواق العطارة والتوابل والبهارات في ثياب من يمر بها؛ من القرفة والورد والبابونج والمسك والزعفران والعطور الشامية. لم تكن المدرسة والطريقة التي اكتسب بها معرفته وحبه للشعر هما من أثر بنزار فقط، بل حالة الهيام بالمكان الذي سمح شكله وألوانه وروائحه لأزاميل الذاكرة بالحفر في عقله وقلبه وترك نقوشها الأبدية تجري في دمه، وتخرج من أصابعه كلمات على الورق، فائضة بحب خالص لا ينتهي لهذا المكان، كما اعتبرها أيضاً جواز سفر لدخول الفكر الأوروبي بتعلمه الأدب الفرنسي من أفكار وأشعار لموليير وبولدير وأندريه موروا وغيرهم.النشيد الوطني
تأثر نزار خلال وجوده في الكلية العلمية الوطنية بأستاذه في المدرسة الشاعر خليل مردم بك، أحد أهم الدمشقيين، المعروف بوطنيته ومؤلف النشيد الوطني للجمهورية العربية السورية (حماة الديار عليكم سلام)، والذي شغل منصب وزير الخارجية السورية سنة 1953، ثم بقي رئيسا للمجمع العلمي العربي بدمشق حتى وفاته، ومن أهم كتبه: "الجاحظ- شعراء الشام في القرن الثالث- الأعرابيات"، ومن أهم قصائده: "لو رأيت الوجه والكأس الصبيح- أدمشق ما للحسن لا يعدوك- مضناك حين أَمضّ البينُ مضناك- ما كنت أعلم أن الشوق يبلغ بي- هل في البكاء على ما فات من حرج"، حيث اعتبر نزار أن مردم بك الشخص الأول الذي عرّفه على الشعر وحبّبه باللغة، إذ علّمه أصول النحو والصرف والبديع، ويذكُر نزار أن أكثر بيتين شعريين غزليين كان يرددهما أستاذه خليل وأثّرا فيه هما: إنَ التي زعمتْ فؤادكَ ملَّها خُلقتْ هواكَ كما خُلِقْتَ هوىً لها مَنَعتْ تحيِّتها فقلتُ لصاحبي ما كان أكثرها لنا وأقلَّها ويتحدث عنه نزار قائلاً: "كان لخليل الفضل العظيم في زرع وردة الشعر تحت جلدي، وفي تهيئة الخمائر التي كونت خلاياي وأنسجتي الشعرية".يذكر أن نزار كان يحفظ في بداية نبوغه الشعري باهتمام بالغ أشعار كل من عمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة وطرفة بن العبد وقيس بن الملوح، بمساعدة أستاذه الشاعر خليل مردم بك. وانتقل نزار لاحقا إلى مدرسة سُميت "التجهيز"، ليحصل منها على شهادة بكالوريا ثانية بقسم الفلسفة، والتي ركزت على اللغة والثقافة العربية تركيزا مطلقا، وفي تلك الفترة (الأربعينيات) أضاف شاعرنا مصدرا آخر للتأثير على حياته الشعرية من خلال قراءته لأدباء وشعراء لبنانيين؛ من أمين نخلة إلى بشارة الخوري وإلياس أبي شبكة وصلاح لبكي وسعيد عقل ويوسف غضوب وميشال طراد وإلياس خليل زخريا.بعد أن أتم دراسته الثانوية والعالية، خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1945 حصل القباني من الجامعة السورية في دمشق على الليسانس في الحقوق، كضمان لعمل في المستقبل، لا حباً بدراسة القانون، لكنه لم يمارس مهنة المحاماة أبداً، فروح الشعر غمرت عمره كاملاً. وحتى أثناء المحاضرات في كلية الحقوق كتب بالقلم الرصاص على كتبه أشعاره الأولى، ومنها قصيدة شهيرة كتبها على هامش كتاب الشريعة، هذه المادة التي حصل فيها على أسوا معدل جامعي، ويعتبر القباني هذه القصيدة الشرارة الأولى التي أطلقته والمفتاح إلى شهرته. كان نزار قباني في عام 1940 قد رسّخ مفهومه للشعر، وتمرد على البراويز الشعرية المتشابهة والمزخرفة، وخرج عن النسخ الشعرية المكررة عن الأصل، فهو لا يرى إلا متنبي واحداً وفاليري واحداً وبابلو نيرودا واحداً، وكل النسخ الأخرى مزورة، فوجد المفاتيح لشعره في الطفولة والثورة والجنون، حاملا جواز شعره الى العالم. عندما كان يستمع مع رفاق مدرسته الثانوية لقصائد كبار الشعراء في الشام على أسوار مقبرة "الباب الصغير" و"الدحداح" كان يوقن أن الشعر العربي قد توقف في مكانه، وحتى أمير الشعراء أحمد شوقي يستقي من المتنبي والبحتري وغيرهم في شعره، فقرر أن يثأر للشعر ويخرج من حفلته التنكرية المتكررة في أول مجموعة شعرية له "قالت لي السمراء"، في سبتمبر عام 1944، التي نشرها من مصروفه الخاص بثلاثمئة طبعة، لتقوم القيامة ضده، رافضين كل ما جاء في القصيدة شكلا ومضمونا، وتعرض لهجوم عنيف إثر نشرها، حيث كتب علي الطنطاوي في مجلة الرسالة شهر مارس عام 1946: "طبع في دمشق كتاب صغير زاهي الغلاف، ناعمه، ملفوف بالورق الشفاف، معقود عليه شريط أحمر، كالذي أوجب الفرنسيون أول العهد باحتلالهم الشام وضعه في خصور بعضهن ليعرفن به. فيه كلام مطبوع على صفة الشعر، فيه أشطار طولها واحد إذا قسمتها بالسنتيمترات، يشمل على وصف ما يكون بين الفاسق والقارح والبغي المتمرسة الوقحة، وصفاً واقعياً لا خيال فيه، لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال، بل هو مدلل غني، وهو طالب في مدرسة".وعلى الرغم من الهجوم على المجموعة الشعرية إلا أنها بيعت كاملة خلال شهر واحد، ولم تحظَ بقيمتها الشعرية الحقيقية حتى عام 1972 من ناحية التقييم. وتضمنت المجموعة قصائد "ورقة إلى القارئ- مذعورة الفستان- مكابرة- الموعد الأول- اكتبي لي- أمام قصرها- اندفاع- أنا محرومة– اسمها– غرفتها– زيتية العينين– حبيبة وشتاء– مساء– خاتم الخطوبة– سمفونية على الرصيف– إلى مصطافة– فم– أحبك– مسافرة– القرط الطويل– رافعة النهد- نهداك- أفيقي- إلى عجوز- إلى زائرة- مدنسة الحليب– البغي". يقول نزار في مذكراته عن تلك المجموعة: "إن ساكني تكايا الشعر العربي يعرفون أن أي صوت شعري جديد سوف يقطع رزقهم ويحيلهم إلى المعاش، لذلك فهم يتحصنون وراء دروعهم التقليدية؛ اللغة والنحو والصرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (قالت لي السمراء) فتحت لي الضوء الأخضر أمام ألوف الشبان والشابات، ليعبروا إلى الرصيف الثاني، حيث كانت الحرية بانتظارهم، فقد كان فيها لغة تشبه لغتهم، وأشواق بحجم أشواقهم، وشعر بمساحة انفعالاتهم".ويقول في قصيدة "ورقة إلى القارئ": كميس الهوادج... شرقية ترش على الشمس حلو الحداد كدندنة البدو... فوق السريرمن الرمل ينشف فيه الندى ومثل بكاء المآذن... سرتُ إلى الله أجرح صوت المدى أعبئ جيبي نجوماً... وأبنيعلى مقعد الشمس لي مقعداويبكي الغروب على شرفتي ويبكي لأمنحه موعدا شراع أنا... لا يطيق الوصول ضياع أنا... لا يريد الهدى حروفي جموع السنونو تمدعلى الصحو معطفها الأسوداأنا الحرف... أعصابه... نبضه تَمزُّقه قبل أن يولدا أنا لبلادي... لنجماتها لغيماتها... للشذا... للندى سفحت قوارير لوني نهوراًعلى وطني الأخضر المفتدى وبمتابعة رحلة نزار الشعرية التي انطلقت شرارتها وبدأت مروج الكلمات تزهر على دفاتره؛ لابد أن نستكمل معرفتنا بالأسرة التي امتهنت العشق والحب، الذي ولد معها كما يولد السكر في التفاحة، فشاعرنا المرهف الإحساس ارتبط مع إخوته بعلاقة رائعة، وكان لديه ثلاثة أشقاء معتز ورشيد وصباح، وشقيقتان وصال وهيفاء. وتختصر هدباء نزار قباني هذه العلاقة بالقول: "افتخر أشقاء والدي جميعاً به. صحيح أنه اشتغل في الحياة الدبلوماسية كغيره من إخوته، لكن قدراً آخر كان مكتوباً له... خصوصاً بعد حادثة أسرية تفجع نزار في سن مبكرة، وتترك أثراً كبيراً على شعره، وهي وفاة أخته".شيء جديد... ومخلوق غريب
في قراءة خاصة ضمن كتاب طبع أول مرة في سبتمبر سنة 1944، كتب الدكتور منير العجلاني عن ديوان "قالت لي السمراء" لصديقه نزار قباني.والعجلاني جمعته صداقة خاصة مع نزار، وهو دمشقي المولد، سياسي ونائب ووزير سابق، وصهر الرئيس تاج الدين الحسني، ومحامٍ وأستاذ جامعي وباحث، واعتُبر أصغر نائب في البرلمان السوري سنة 1936، وعندما أصدر كتابه في قراءة الديوان كان وزيرا للشؤون الاجتماعية، وله ديوان شعري بعنوان "أزهار الألم"، وآخر عنوانه "رجل في جلد آخر"، وله مؤلفات تاريخية كثيرة.يقول الدكتور منير عن ديوان نزار: "لا تقرأ هذا الديوان، فما كتب ليقرأ... ولكنه كتب ليغنى... ويشم ويضم... وتجد فيه النفس دنيا ملهمة...يا نزار! لم تولد في مدرسة المتنبي، فما أجدك تعنى بشيء من الرثاء والمديح والحكمة، وما أجدك تعنى بالبيت الواحد من القصيدة يُضرب مثلاً، وما أجدك بعد هذا تعنى بالأساليب التي ألفها شعراؤنا وأدباؤنا، وإنما أنت شيء جديد في عالمنا ومخلوق غريب. وكأني أجد في طبيعتك الشاعرة روائح بودلير وفيرلين والير سامان وغيرهم من أصحاب الشعر الرمزي والشعر النقي".