"هذا الاختراع هو أعظم نضال ضد الموت"، هكذا عبّر لومير عن اختراعه "للسينما"، وهو يشاهد مبهوراً فكرة الإمساك بالحياة وإمكانية استعادتها وعرضها من جديد، والأهم تقييم كل تفصيلة في الصورة، وربما لهذا تمكنا من تلمس مواهب عديدة ستظل مدينة بالفضل لهذا الاختراع (السينما) الشاهد على عبقرية مواهبهم وقدرتهم على الإبداع، ومن بين هؤلاء الفنان زكي رستم، فلولا أفلامه التي كانت وستظل حاضرة في الذاكرة والوجدان لما تمكنا من الوقوف على عمق موهبته وقدرته على التلون بين أنماط مختلفة، تاركا لنا تراثا فنيا كبيرا نتأمله بالرصد والتحليل، كأحد أهم الوجوه التي نقلت فن "التشخيص" من زيف الأداء الخارجي إلى صدق الانفعال الداخلي.والمتأمل لأدائه يمكنه ببساطة التأكد من أن هذا الممثل يعشق التمثيل فعلا ًولا يعمل به من أجل الشهرة (كان قد حققها عبر الرياضة ولو واصل فيها لحقق نجاحات أكبر وشهرة أعرض)، ولا من أجل المال بحكم نشأته الثرية، بدليل أنه كان يتوقف عن العمل ما لم تتوفر له أدوار جيدة (في الفترة من عام 1940 حتى 1945 لم يقدم إلا 5 أفلام)، باختصار كان يؤدي دوره كمن يقف في محراب مقدس يؤكد في كل لحظة حبه الجارف لهذا الفن الذي جعله يضرب بالتقاليد والأعراف عرض الحائط، والأهم أنه لم يغلق اهتمامه بالفن على "ذاته"، بحيث يعمل على تطوير أدائه أو المشاركة في الإنتاج لتقديم أعمال جيدة وأدوار متميزة، وخصوصاً وهو يمتلك المال الذي يساعده على خوض التجربة.
يقول الراحل في هذا الصدد بأحد حواراته الصحافية: "لم أفكر يوماً في خوض تجربة الإنتاج سواء للمسرح أو السينما لإيماني بأهمية التخصص، فأنا لا أجيد إلا التشخيص، ولا أعرف إلا التعمق في الأداء لتقديم الدور على أكمل وجه".
اعتزال
في ظل صناعة السينما "الوليدة"، والأزمة التي ضربت الفن ونجومه، وخصوصاً المسرح، راح رستم يبحث عن حلول، حيث كتب في مجلة الصباح (مايو 1930) يطالب بتشكيل فرقة مسرحية حكومية تضم صفوة الفنانين وتقدم أعمالا رفيعة المستوى، ليكون بذلك أول من طالب بتدخل الدولة لدعم الفن عموما والمسرح خصوصاً، وهو ما تحقق بعدها بسنوات تحديداً عام 1935 حينما أسست الحكومة المصرية في تلك الفترة أول فرقة تمولها وتشرف عليها إشرافا كاملاً، وهي الفرقة القومية التي انضم لها رستم مع كوكبة من ألمع الفنانين برئاسة الشاعر خليل مطران، وكان من بين أعضائها أيضاً جورج أبيض، وعزيز عيد، وأحمد علام، وحسين رياض، وعباس فارس، وسراج منير، وعزيزة أمير، وزينب صدقي، وفردوس محمد.قبلها بعام كان راهب الفن انضم إلى فرقة اتحاد الممثلين التي تكونت بإعانة كبيرة من الدولة لحل أزمة المسرح التي بلغت ذروتها في الثلاثينيات لإنقاذ الفنانين الذين توقفت فرقهم وباتوا يعانون البطالة، وبالفعل عين جورج أبيض مديرا للاتحاد وزكي طليمات مديرا فنيا، في حين انضم لهذا التشكيل عدد كبير من ممثلي الفرق المتوقفة، وقد شارك رستم في عدد من عروض الفرقة التي حلت في النهاية بسبب سوء الأزمة وتطاحن أعضائها.أما مع الفرقة القومية، فقد شارك رستم في عدد من العروض، لعل أبرزها "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم ومن إخراج زكي طليمات، ولعب فيه دور الملك، كما شارك أيضاً في عروض "الملك لير"، و"تاجر البندقية" لشكسبير، و"أندروماك" لراسين، و"الجريمة والعقاب" لديستوفسكي، و"المعجزة" لرودلف بيريز، و"الله" لهانز موللر، و"العباسة" لعزيز أباظة و"مجنون ليلى" لأحمد شوقي، وعروض أخرى كثيرة لم يؤكد من خلالها موهبته وحضوره فحسب بل اكتسب من خلالها الكثير من الخبرات، ونضج أداؤه حيث كان قادراً على أداء الشخصيات المختلفة المتعددة الأوجه، سواء التراجيدية أو الكوميدية، وفقاً للكثير من الكتابات النقدية التي تناولت هذه الأعمال.غير أن زكي وبعد عشر سنوات تألق فيها مع الفرقة القومية قدم استقالته وسط دهشة الجميع، نظرا لأن مجرد الانضمام إلى هذه الكوكبة من النجوم كان مطمحا لعشاق التمثيل، يضاف إلى ذلك أن الأدوار التي كان يؤديها لم تكن أدواراً صغيرة أو هامشية، كما أنها حققت نجاحاً كبيراً، باختصار كان يتمتع بوضعية تتناسب مع مكانته الفنية معنويا وماديا أيضا، لهذا كان انسحابه من العمل بالفرقة مثار جدل كبير.ووفقا لتصريحاته السابقة، أدرك الراحل زكي رستم أن إمكاناته وطاقته ستنجلي وتنطلق بشكل أكثر اكتمالاً على شاشة السينما، لهذا قرر أن يتفرغ للعمل بها، بتعبير أدق، رغب في أن يرفع راياته على أرض جديدة، وخصوصا أن معظم الآراء النقدية التي قيمت تجربته المسرحية على مدى 20 عاما (1924- 1945) تقريبا جاءت لمصلحته وشهدت بصدقه وأصالة موهبته وخصوصيتها.
تنوع
منذ إطلالته السينمائية الأولى ونجاحه في هذه الأعمال، أصبح زكي رستم القاسم المشترك في العديد من الأفلام، إذ اكتسب من المسرح خبرة صقلت موهبته، ثم وجد الطريق ممهداً أمامه على شاشة السينما، خصوصا بعدما نجح في التعامل مع آلياتها وبما يبرز موهبته بصورة أوضح، وهو ما أشاد به الجميع.وفي عام 1937 عمل مجددا مع المخرجة والممثلة والمنتجة بهيجة حافظ من خلال فيلم "ليلى بنت الصحراء"، حيث قام بدور كسري الذي يخطف الفتاة البدوية ليحرق قلب ابن عمها البراق، وهو الدور الذي واصل من خلاله تقديم أدوار الشر التي كان قد بدأها في "الضحايا" حيث شخصية برعي الزوج الفظ تاجر المخدرات، الذي يعذب زوجته الجميلة التي لا تعرف شيئاً عن نشاطه الإجرامي.وإذا كان رستم حاول الخروج عن هذه الأدوار في أفلام مثل "الوردة البيضاء"، فإنه لم يفلح في الهروب منها في تلك الفترة كثيراً، فمثلا في "زليخة تحب عاشور" إخراج أحمد جلال قدم من خلاله تنوعاً مختلفاً لأدوار الشر، حيث جسد دور شخص فاسد يؤويه قريبه عاشور في بيته لكنه يحاول أن يستميل قلب زوجته ليدفعها إلى الحب الحرام، لكنه يفاجأ بوفائها لزوجها قبل أن ينكشف أمره ويطرد من حياتهم التي اجتهد في تدميرها.وفي عام 1942 قدم فيلم الشريد لهنري بركات، وقام فيه بدور مشابه، فهو حسين الذي يحب الفتاة سهير، إلا أن صديقه محمد يتزوجها، فتجرفه حياة اللهو والعبث ويسوء حاله، لينقذه صديقه ولكنه يخونه مع زوجته.الشر إذن كان رفيق البدايات كذلك خلال محطات مختلفة في مشواره حيث قدم أدواراً أكثر عمقاً ونضجاً ومن ثم نجاحاً (سنتوقف أمام بعضها بالرصد والتحليل لاحقا)، وهو ما فسره الراحل في أحد حواراته بأنه كان يجد في هذه الأدوار تحدياً لقدراته كممثل يمكن أن يقدم تنويعات على نفس النمط الذي سبق أن قدمه ويبدو مختلفا، مشيرا إلى أنه كان يجتهد دوما في التمرد على هذه النوعية من الأدوار رغم أنها كانت تلقى قبولا في نفسه ورغبة في تقديم تنويعات عليها، مؤكدا أن عتاة الإجرام يختلفون من شخص لآخر سواء شكلا أو مضمونا وهو الأهم، وحتى لو نفس هذه النماذج تم تناولها من جانب البعض، فلا يجد حرجاً في إعادة تقديمها برؤية مختلفة، كما كان يري أيضا وكما أكد في حواراته، ضرورة أن ترصد الفنون بشكل عام قطاعات وشرائح مختلفة من المجتمع، وأن تسلط الأضواء على عيوبها يفهمها الجمهور ومن ثم يمكن إصلاحها، مؤكدا أن هذه هي رسالة الفن.قد يري البعض أن تكوين زكي الجسماني كان سبباً رئيسياً وراء إسناد هذه الأدوار له، فهو البطل الرياضي المفتول العضلات، ولكن لو لم تسانده الموهبة لما تمكن من تحقيق هذه المكانة، فمثلا زكي رستم في "عائشة" لجمال مدكور يختلف عنه في "بائعة الخبز" لحسن الإمام، وفي "النمر" لحسن الإمام يختلف عن "رصيف نمرة 5" لنيازي مصطفي، دائما في جعبته الجديد والمختلف، والأهم كما يؤكد الناقد كمال رمزي أنه "كان بارعاً في التعبير عن تطورات الشخصية التي يؤديها، دائماً يبتكر في إعادة صياغتها بشكل مختلف، فلا يلجأ أبدا إلى الكليشيهات التي يهرب بها البعض، فمثلا في فيلم "السوق السوداء"، أعطى كامل التلمساني لرستم درساً في تلون الأداء بما يواكب تحولات الشخصية التي لعبها، حيث تدور الأحداث مع نهاية الحرب العالمية الثانية من خلال أبومحمود صاحب أحد الأفران الشعبية الذي يختطف الموت ابنه وهو في ريعان الشباب، فيطالعنا بوجه الباش رغم لمسة الحزن التي لا تخطئها عين، كذلك طريقة مشيته المتمهلة وكلامه الهادئ ومجمل التفاصيل التي تضعه في خانة "الطيبين"، إلا أن محك التجربة يضعنا أمام شخص مختلف تماماً، فالحرب التي ألقت بظلالها على الحالة الاقتصادية جعلته يوافق على أن يشتري بضائع ليتم تخزينها حتى يتعطش لها السوق فيتم بيعها بأضعاف سعرها الأصلي، ومع تراكم ثروته تتغير مشاعره ويتبدل سلوكه ليواكب ويساير مصالحه الجديدة ليصبح مع نهاية الفيلم أقرب إلى الوحش الكاسر.ويواصل رمزي قائلاً: وبين بداية الفيلم ونهايته تتجلى قدرات هذا الممثل وبراعته في رصد كيف تصارعت كل القيم داخل روحه، كيف اختفت نظرة السلام التي كانت تميزه كانعكاس لما بداخله حينها من رضا وصفاء نفسي لتحل مكانها نظرة تكشف عن شراهة ممزوجة بالجبروت وتفاصيل أخرى كثيرة تؤكد قدرته المذهلة على تجسيد عدة انفعالات متناقضة وشديدة التعقيد وببراعة تقف أمامها مذهولا.تفاصيل
وهكذا مع تكرار أي شخصية كان "العبقري الموهوب" يقدمها سواء طيبة أو شريرة، كان يحرص على تغيير "ديكوره الخارجي" وبما يتوافق مع ظروفها وطبيعتها، تحديدا انفعالاتها، ومتى تخضع للانضباط، أو يطلق لها العنان، ملامح الوجه، نظرة العين، ارتعاشة الصوت ومجمل التفاصيل الخاصة بالأداء، إضافة طبعا إلى الملابس التي كان يحرص على تدقيقها خصوصا أن السينما في بدايتها لم تكن تعرف مهنة "الاستايلست" أو مصمم الأزياء، فمثلا في فيلم "رصيف نمرة 5" للمخرج نيازي مصطفى حيث كانت الأحداث تدور في الإسكندرية وكان رستم يلعب دور تاجر مخدرات الذي يتظاهر بالورع والتقوى أمام الناس بينما هو في الحقيقة زعيم عصابة ومن عتاة الإجرام.درس مهم
وفي أثناء تصوير الفيلم وكما حكى الراحل فريد شوقي، فإن زكي رستم رفض التصوير (كان فريد شوقي أحد المشاركين في إنتاج الفيلم إضافة لبطولته) وعندما سألوه عن السبب خصوصا أنه كان معروفاً عنه الالتزام، أوضح الراحل العبقري أنه لا يستطيع ارتداء ملابس الشخصية "الجلاليب"، لأنها "بلدي أي فلاحي" وليست "اسكندرانية" و"تفصيلة" الجلباب البلدي تختلف عن الجلباب السكندري، ما قد يعرض الشخصية للنقد والسخرية، رغم أن الفروق بينهما طفيفة، وربما لا يلاحظها البعض، لكنه فنان حريص دوما على المصداقية، وعلى احترام جمهوره لم يستطع تجاوز هذه الجزئية. ومن جانبه استجاب فريد شوقي كمنتج وكفنان أيضا لهذه الملحوظة المهمة والتي علمته درساً مهماً جدا، كما أكد هو ضرورة أن تتواءم الشخصية التي يقدمها مع البيئة التي تنتمي لها.الفروق الطفيفة
لكن يبقى سؤال مهم هو: كيف تمكن ابن الباشوات من أن يعرف هذه الفروق الطفيفة بين الجلباب البلدي والسكندري، والتي ربما لا يلتفت لها أحد إلا قلة قليلة من المنتمين لهذه البيئات.زكي يطلب يد نورما شير
نشرت مجلة الكواكب في عددها الصادر عام 1932 بتوقيع المحرر سهيل أنه علم من صديقه الفنان زكي رستم والمخرج محمد كريم أن النجمة العالمية نورما شير موجودة في زيارة لمصر، وأنها (والكلام لمحمد كريم) تزور الأهرامات.ويقول كريم: "على الفور تحمسنا للقيام بهذه المغامرة لنكون أول من نلقاها من المصريين، وقبل أن نصل إلى ساحة الأهرامات كان الزحام شديداً يتصدره مجموعة من الصحافيين، فظن فريقنا أن الخبر تم تسريبه، فالجميع بصدد الحصول على سبق صحافي يعرف من خلاله أسباب زيارة هذه النجمة العالمية، وطالت الوقفة دون جدوى، وبدأ الجمع ينفض، ومن جانبنا اتخذنا قرار الرحيل، وفجأة ظهر لنا من بعيد شخص لم نتبين ملامحه كان يتوكأ على عصا ويسير في اتجاهنا، حتى إذا اقترب تبينا أنها سيدة عجوز سرعان ما تعثرت قدمها فاهتز رأسها وسقط الشعر المستعار، واتضح أنها النجمة العالمية، التي جرى زكي رستم وساعدها على النهوض من على الأرض".ويضيف كريم: "عندها عرفنا أنها كانت تخفي وجهها لتهرب من الصحافيين، ولثوان أدركت أنني منهم، لكنها استسلمت لإجراء الحوار الذي شاركني فيه كريم ورستم، وعرفنا منها سر الزيارة، حيث جاءت لمصر لتستجم بعد انفصالها عن زوجها، وهنا همس زكي في أذني بأن أخبرها برغبته في الزواج منها، غير أنها اعتذرت منه مؤكدة أنها ستمنح ما تبقى من حياتها لفنها، ثم ودعناهما وانصرفنا".وبعد نشر الموضوع قامت الدنيا ولم تقعد، وبدأت الصحافة تطارد زكي رستم ومحمد كريم لمعرفة كل تفاصيل الزيارة قبل أن يضطر المحرر سهيل للاعتراف في العدد التالي بحقيقة الموضوع وأنه ليس إلا كذبة أبريل.