وفي الليلة الحادية عشرة بعد الخمسمئة، قالت شهرزاد: مما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أن الخليفة هارون الرشيد تفقد خراج البلاد يوماً من الأيام فرأى خراج جميع الأقطار والبلاد جاء إلى بيت المال إلا خراج البصرة فإنه لم يأت في ذلك العام فنصب ديواناً لهذا السبب، وقال علي بالوزير، فحضر بين يديه فقال له إن خراج جميع الأقطار جاء إلى بيت المال إلا خراج البصرة فإنه لم يأت منه شيءٌ، فقال: يا أمير المؤمنين لعل نائب البصرة حصل له أمر ألهاه عن إرسال الخراج، فقال له إن مدة حضور الخراج عشرون يوماً فما عذره في هذه المدة حتى لم يرسل الخراج أو يرسل بإقامة العذر؟ فقال له: يا أمير المؤمنين إن شئت أرسلنا إليه رسولاً، فقال: أرسل له أبا اسحق النديم، فقال: سمعاً وطاعةً لله ثم لك يا أمير المؤمنين.

ثم إن الوزير نزل إلى داره وأحضر أبا اسحق النديم وكتب له، وقال له امض إلى عبد الله بن فاضل نائب مدينة البصرة وانظر ما الذي ألهاه عن إرسال الخراج ثم تسلم منه خراج البصرة بالتمام والكمال وائتني به سريعاً فإن الخليفة تفقد خراج الأقطار فوجده قد وصل إلا خراج البصرة، وإن رأيت الخراج غير حاضرٍ واعتذر إليك بعذرٍ فهاته معك ليخبر الخليفة بالعذر من لسانه، فأجاب بالسمع والطاعة وأخذ خمسة آلاف فارسٍ من عسكر الخليفة، وسافر حتى وصل إلى مدينة البصرة فعلم بقدومه عبد الله بن فاضل فخرج بعسكره إليه ولاقاه ودخل به البصرة وطلع به قصره، وبقية العسكر نزلوا في الخيام خارج البصرة، وقد عين لهم ابن فاضل جميع ما يحتاجون إليه، ولما دخل أبو اسحق الديوان وجلس على الكرسي أجلس عبد الله بن فاضل بجانبه، وجلس الأكابر حوله على قدر مراتبهم.

Ad

ثم بعد السلام قال له ابن فاضل: يا سيدي هل لقدومك علينا من سببٍ؟ قال: نعم، إنما جئت لطلب الخراج فإن الخليفة سأل عنه ومدة وروده قد مضت، فقال: يا سيدي يا ليتك ما تعبت ولا تحملت مشقة السفر فإن الخراج حاضرٌ بالتمام والكمال، وقد كنت عازماً أن أرسله في غدٍ، ولكن حيث أتيت فإني أسلمه إليك بعد ضيافتك ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أحضر الخراج بين يديك، ولكن وجب علينا الآن أننا نقدم إليك هديةً من بعض خيرك وخير أمير المؤمنين، فقال: لا بأس بذلك، ثم إنه فض الديوان ودخل به قصراً في داره ليس له نظيرٌ، ثم قدم له ولأصحابه سفرة الطعام فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا ثم رفعت المائدة وغسلت الأيادي وجاءت القهوة والشربات وقعدوا في المنادمة إلى ثلث الليل، ثم فرشوا له سريراً من العاج مرصعاً بالذهب الوهاج فنام عليه ونام نائب البصرة على سريرٍ آخر بجانبه فغلب السهر على ابن اسحق رسول أمير المؤمنين وصار يفكر في بحور الشعر والنظام، لأنه من خواص ندماء الخليفة، وكان له باعٌ عظيمٌ في الأشعار ولطائف الأخبار ولم يزل سهران في إنشاد الشعر إلى نصف الليل، فبينما هو كذلك إذا بعبد الله بن فاضل قام وشد حزامه وفتح دولاباً وأخذ منه سوطاً وأخذ شمعةً مضيئةً وخرج من باب القصر وهو يظن أن أبا اسحق نائم.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

ابن فاضل والكلبان

وفي الليلة الثانية عشرة بعد الخمسمئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله بن فاضل لما خرج من باب القصر وهو يظن أن أبا اسحق النديم نائماً فلما خرج تعجب أبو اسحق وقال في نفسه إلى أين يذهب ابن فاضل بهذا السوط، فلعل مراده أن يعذب أحداً ولكن لا بد لي من أن أتبعه وانظر ما يصنع في هذه الليلة، ثم أن أبا اسحق قام وخرج وراءه قليلاً قليلاً، بحيث إنه لم يره فرأى عبدالله فتح خزانةً وأخرج منها مائدةً فيها أربعة أصحن من الطعام وخبزاً وقلةً فيها ماء، ثم إنه حمل المائدة والقلة ومشى، فتبعه أبو اسحق مستخفياً إلى أن دخل قاعة فوقف أبو اسحق خلف باب القاعة من داخل، وصار ينظر من خلال ذلك الباب، فرأى هذه القاعة واسعةً ومفروشةً فرشاً فاخراً، وفي وسطها سريرٌ من العاج مرصع بالذهب الوهاج، وذلك السرير مربوطٌ فيه كلبان في سلسلتين من الذهب، ثم إنه رأى عبد الله حط المائدة على جانبٍ في مكانٍ وشمر عن أياديه وفك الكلب الأول فصار يتلوى في يده ويضع وجهه في الأرض كأنه يقبل بين يديه ويعوي عواءً خفيفاً بصوتٍ ضعيفٍ، ثم إنه كتفه ورماه في الأرض وسحب السوط ونزل به عليه وضربه ضرباً وجيعاً من غير شفقةٍ وهو يتلوى بين يديه ولا يجد له خلاصاً ولم يزل يضربه بذلك السوط حتى قطع الأنين وغاب عن الوجود، ثم إنه أخذه وربطه في مكانه، وبعد ذلك أخذ الكلب الثاني وفعل به كما فعل بالأول، ثم إنه أخرج محرمةً وصار يمسح لهما دموعهما ويأخذ بخاطرهما، ويقول: لا تؤاخذاني والله ما هذا بخاطري، ولا يسهل علي ولعل الله يجعل لكما من هذا الضيق فرجاً ومخرجاً، ويدعو لهما، وحصل كل هذا وأبو اسحق النديم واقفٌ يسمع بأذنه ويرى بعينه وقد تعجب من هذه الحالة، ثم إنه قدم لهما سفرة الطعام وصار يلقمهما بيده حتى شبعا ومسح لهما فميهما، وحمل القلة وسقاهما، وبعد ذلك حمل المائدة والقلة والشمعة، وأراد أن يخرج فسبقه أبو اسحق وجاء إلى سريره ونام ولم يعرف أنه تبعه، وأطلع عليه، ثم إن عبد الله وضع السفرة والقلة في الخزانة ودخل القاعة وفتح الدولاب ووضع السوط في محله، وقلع حوائجه ونام هذا ما كان من أمره.

الخليفة يستدعي الكلبين

وأما ما كان من أمر أبي اسحق فإنه بات بقية تلك الليلة يفكر في هذا الأمر، ولم يأته نومٌ من كثرة العجب، وصار يقول في نفسه: يا ترى ما سبب هذه القضية؟ ولم يزل يتعجب إلى الصباح، ثم قاموا وصلوا الصبح ووضع لهم الفطور، فأكلوا وشربوا القهوة وطلعوا إلى الديوان، واشتغل أبو اسحق بأمر الكلبين طول النهار، ولكنه كتمه، ولم يسأل عبد الله عنه، وثاني ليلة فعل بالكلبين كذلك، فضربهما ثم صالحهما وأطعمهما وسقاهما وتبعه أبو اسحق فرآه فعل بهما كأول ليلةٍ وكذلك ثالث ليلةٍ.

ثم إنه أحضر الخراج إلى أبي اسحق النديم في رابع يومٍ فأخذه وسافر، ولم يزل مسافراً حتى وصل إلى مدينة بغداد وسلم الخراج إلى الخليفة، ثم إن الخليفة سأله عن سبب تأخير الخراج، فقال له: يا أمير المؤمنين رأيت عامل البصرة قد جهز الخراج وأراد إرساله ولو تأخرت يوماً لقابلني في الطريق، ولكن رأيت من عبد الله بن فاضل عجباً ما رأيت مثله يا أمير المؤمنين، فقال الخليفة: وما هو يا أبا اسحق؟ قال: رأيت ما هو كذا وكذا وأخبره بما فعله مع الكلبين، وقال: رأيته ثلاث ليالٍ متوالياتٍ وهو يعمل هذا العمل، فيضرب الكلبين وبعد ذلك يصالحهما ويأخذ بخاطرهما ويطعمهما ويسقيهما وأنا أتفرج عليه بحيث لا يراني، فقال له الخليفة: فهل سألته عن السبب؟ فقال له: لا وحياة رأسك يا أمير المؤمنين، فقال الخليفة: يا أبا اسحق أمرتك أن ترجع إلى البصرة وتأتيني بعبد الله بن فاضل وبالكلبين.

فقال يا أمير المؤمنين: دعني من هذا فإن عبدالله بن فاضل أكرمني إكراماً زائداً، وقد اطلعت على هذه الحالة اتفاقاً من غير قصد، فأخبرتك بها، فكيف أرجع إليه وأجيء به فإن رجعت إليه لا ألقى لي وجه حياءٍ منه، فاللائق إرسال غيري إليه بخط يدك فيأتيك به وبالكلبين، فقال له: إن أرسلت له غيرك ربما ينكر هذا الأمر، ويقول ما عندي كلابٌ، وأما إذا أرسلتك أنت وقلت له إني رأيتك بعيني فإنه لا يقدر على إنكار ذلك، فلا بد من ذهابك إليه وإتيانك به وبالكلبين، وإلا فلا بد من قتلك.

اعتذار النديم

فقال له أبو اسحق: سمعاً وطاعةً يا أمير المؤمنين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصدق من قال آفة الإنسان اللسان، فأنا الجاني على نفسي حيث أخبرتك، ولكن اكتب خطاً شريفاً، وأنا ذاهب إليه وآتيك به، فكتب له خطاً شريفاً وتوجه به إلى البصرة، فلما دخل على عامل البصرة، قال له: كفانا الله سبب رجوعك يا أبا اسحق، فما لي أراك رجعت سريعاً لعل الخراج ناقصٌ فلم يقبله الخليفة! فقال: يا أمير عبد الله ليس رجوعي من أجل نقص الخراج، فإنه كاملٌ وقبله الخليفة، ولكن أرجو منك عدم المؤاخذة فأني أخطأت في حقك، وهذا الذي وقع مني مقدرٌ من الله تعالى، فقال له وما وقع منك يا أبا اسحق أخبرني، فإنك حبيبي وأنا لا أؤاخذك، فقال له: اعلم أني لما كنت عندك أتبعتك ثلاث ليالٍ متوالياتٍ، وأنت تقوم كل ليلةٍ في منتصف الليل وتعذب الكلبين وترجع، فتعجبت من ذلك واستحييت أن أسألك عنه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

الكلبان بحضرة الخليفة

وفي الليلة الثالثة عشرة بعد الخمسمئة، قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا اسحق قال لعبد الله: لما رأيت عذابك للكلبين استحييت أن أسألك عنهما، وقد أخبرت الخليفة خبرك اتفاقاً من غير قصدٍ، فألزمني الرجوع إليك وهذا خط يده، ولو كنت أعلم أن الأمر يحوج إلى ذلك ما كنت أخبرته، ولكن جرى القدر بذلك، وصار يعتذر إليه، فقال له: حيث أخبرته فأنا أصدق خبرك عنده لئلا يظن بك الكذب، فإنك حبيبي ولو أخبره غيرك لكنت أنكرت ذلك وكذبته، فها أنا أروح معك، وآخذ الكلبين معي، ولو كان في ذلك تلف نفسي وانقضاء أجلي، فقال له: سترك الله كما سترت وجهي عند الخليفة، ثم إنه أخذ هديةً تليق بالخليفة وأخذ الكلبين في جنازير من الذهب، وحمل كل كلبٍ على جملٍ، وسافروا إلى أن وصلوا إلى بغداد، ودخلوا على الخليفة، فقبل الأرض بين يديه فأذن له بالجلوس، وأحضر الكلبين بين يديه، فقال الخليفة: ما هذان الكلبان يا أمير عبد الله، فصار الكلبان يقبلان الأرض بين يديه ويحركان أذنابهما ويبكيان كأنهما يشكوان له.

حكاية الكلبين

فتعجب الخليفة من ذلك، وقال له أخبرني بخبر هذين الكلبين، وما سبب ضربك لهما وإكرامهما بعد الضرب؟ فقال له: يا خليفة ما هذان كلبين، بل رجلان شابان ذوا حسنٍ وجمال، وقدٍّ واعتدالٍ، وهما أخواي وولدا أمي وأبي، فقال الخليفة: وكيف كانا آدميين وصارا كلبين، قال: إن أذنت لي يا أمير المؤمنين أخبرك بحقيقة الخبر، فقال أخبرني وإياك الكذب فإنه صفة أهل النفاق، وعليك بالصدق فإنه سفينة النجاة وشيعة الصالحين، فقال له: اعلم يا خليفة الله أني إذا أخبرتك بخبرهما يكونان هما الشاهدين علي، فإن كذبت يكذباني، وإن صدقت يصدقاني.

فقال له هذان من الكلاب، لا يقدران على نطقٍ ولا جوابٍ، فيكف يشهدان لك أو عليك، فقال لهما يا أخويََّ إذا أنا تكلمت كلاماً كذباً فارفعا رأسيكما وحملقا أعينكما، وإذا تكلمت صدقاً فنكسا رؤوسكما وأغمضا أعينكما، ثم إنه قال: اعلم يا خليفة الله أننا نحن ثلاثة إخوة، أمنا واحدةٌ وأبونا واحد، وكان اسم أبينا فاضلاً، وما سمي بهذا الاسم إلا لكون أمه وضعت ولدين توأمين في بطنٍ واحد، فمات أحدهما لوقته وساعته، وفضل الثاني فسماه أبوه فاضلا، ثم رباه وأحسن تربيته إلى أن كبر فزوجه أمنا، ومات جدنا، فوضعت أخي هذا أولاً، فسماه أبي منصوراً وحملت ثاني مرة، ووضعت أخي هذا فسماه ناصراً، وحملت ثالث مرة ووضعتني فسماني عبد الله، وربانا حتى كبرنا وبلغنا مبلغ الرجال، فمات وخلف لنا بيتاً ودكاناً ملآن قماشاً ملوناً من سائر أنواع القماش الهندي والرومي والخراساني وغير ذلك، وخلف لنا ستين ألف دينار.

فلما مات أبونا غسلناه وعملنا له مشهداً عظيماً ودفناه وذهب لرحمة مولاه وعملنا له عتاقةً وعتمات وتصدقنا عليه إلى تمام الأربعين يوماً، ثم إني بعد ذلك جمعت التجار وأشراف الناس وعملت لهم يوماً عظيماً، وبعد أن أكلوا قلت لهم: يا تجار إن الدنيا فانيةٌ والآخرة باقيةٌ وسبحان الدائم بعد فناء خلقه، هل تعلمون لأي شيءٍ جمعتكم في هذا اليوم المبارك عندي؟ قالوا: سبحان علام الغيوب، فقلت لهم إن أبي مات عن جملةٍ من المال وأنا خائفٌ أن يكون عليه تبعةٌ لأحد من دينٍ أو رهنٍ أو غير ذلك ومرادي تخليص ذمة أبي من حقوق الناس، فمن كان له عليه شيءٌ فليقل إن لي عليه كذا وكذا وأنا أورده لأجل براءة ذمة أبي.

فقال لي التجار: يا عبد الله إن الدنيا لا تغني عن الآخرة، ولسنا أصحاب باطل وكل منا يعرف الحلال والحرام، ونخاف من الله تعالى ونتجنب أكل مال اليتيم ونعلم أن أباك رحمة الله عليه كان دائماً يبقي ماله عند الناس ولا يخلي في ذمته شيئاً لأحد، ونحن كنا دائماً نسمعه وهو يقول: أنا أخاف من متاع الناس ودائماً كان يقول في دعائه: إلهي أنت ثقتي ورجائي فلا تمتني وأنا مديونٌ، وكان من جملة طباعه أنه إذا كان لأحدٍ عليه شيءٌ فإنه يدفعه إليه من غير مطاليةٍ وإذا كان له على أحد شيء فإنه لا يطالبه ويقول له على مهلك، وإن كان فقيراً يسامحه ويبرئ ذمته، وإن لم يكن فقيراً ومات يقول سامحه الله مما لي عنده، ونحن كلنا نشهد أنه ليس لأحدٍ عنده شيءٌ، فقلت: بارك الله فيكم.

قسمة المال والقماش

ثم أني التفت إلى أخويَّ، وقلت لهما: يا أخويَّ، إن أبانا ليس عليه لأحدٍ شيء، وقد أبقى لنا هذا المال والقماش والبيت والدكان ونحن ثلاثة أشقاء، كل واحد منا يستحق ثلث هذا الشيء فهل نتفق على عدم القسمة ويستمر مالنا مشتركا بيننا ونأكل ونشرب سواءً أو نقتسم القماش والأموال ويأخذ كل واحد منا حصته فأبيا إلا القسمة، ثم التفت إلى الكلبين، وقال لهما: هل جرى ذلك يا أخويَّ؟ فنكسا رؤوسهما وأغمضا عيونهما، كأنهما قالا نعم، ثم إنه قال: فأحضرت قساماً من طرف القاضي يا أمير المؤمنين فقسم بيننا المال والقماش وجميع ما تركه لنا أبونا وجعلوا البيت والدكان من قسمي في نظير بعض ما استحقه من الأموال ورضينا بذلك وصار البيت والدكان في قسمي وهما نالا قسمهما مالاً وقماشاً، ثم إني فتحت دكاناً ووضعت فيه القماش واشتريت بجانب من المال الذي نلته زيادةً على البيت والدكان قماشاً حتى ملأت الدكان وقعدت أبيع واشتري.

وأما شقيقاي فإنهما اشتريا قماشاً واكتريا مركباً وسافرا في البحر إلى بلاد الناس، فقلت ساعدهما الله، وأنا رزقي يأتيني وليس للراحة قيمةٌ، ودمت على ذلك مدة سنةٍ كاملة، ففتح الله علي وصرت أكسب مكاسب كثيرةً، حتى صار عندي مثل الذي تركه لنا أبونا.

فاتفق لي يوماً من الأيام أنني كنت جالساً في الدكان وعلي فروتان إحداهما سمور والثانية سنجاب، لأن ذلك الوقت كان في فصل الشتاء في أوان اشتداد البرد، فبينما أنا كذلك إذا بشقيقي قد أقبلا وعلى بدن كل منهما قميص من غير زيادة وشفاههما تنتفض من البرد، فلما رأيتهما عسر علي ذلك وحزنت عليهما.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

ثورة البحر

في الليلة الرابعة عشرة بعد الخمسمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله بن فاضل لما قال للخليفة: فلما رأيتهما ينتفضان عسر علي ذلك وطار عقلي من رأسي فقمت إليهما واعتنقتهما وبكيت على حالهما وألقيت على واحد منهما الفروة السمور وعلى الثاني الفروة السنجاب، وجئت بهما إلى الحمام وأرسلت إلى كل منهما في الحمام بدلة تاجر، وبعد ما اغتسلا لبس كل واحد بدلته، ثم أخذتهما إلى البيت فرأيتهما في غاية الجوع، فوضعت لهما سفرة الأطعمة، فأكلا وأكلت معهما ولاطفتهما وطيبت خاطرهما.

ثم التفت إلى الكلبين، وقال لهما: هل جرى ذلك يا أخويّ، فنكسا رأسيهما وأغمضا عيونهما، ثم إنه قال: يا خليفة الله، ثم إني سألتهما وقلت لهما: ما الذي جرى لكما، فقال: سافرنا في البحر ووصلنا مدينةً تسمى الكوفة وصرنا نبيع قطعة القماش التي ثمنها علينا نصف دينارٍ بعشرة دنانير، والتي بدينار بعشرين ديناراً، واكتسبنا مكاسب عظيمة واشترينا من قماش العجم شقة الحرير بعشرة دنانير، وهي تساوي في البصرة أربعين، وذهبنا لمدينة تسمى الكرخ فبعنا واشترينا وكسبنا مكاسب كثيرة، وصارت عندنا أموال كثيرة، وجعلا يذكران لي أحوال البلاد والمكاسب، فقلت لهما حيث رأيتهما: هذا الفرج والخير، فمالي أراكما رجعتما عريانين، فتنهدا وقالا: ما حل بنا إلا عينٌ صائبةٌ، والسفر ما له أمان، فلما جمعنا تلك الأموال والخيرات وسقنا متاعنا في مركب وسافرنا في البحر بقصد التوجه إلى مدينة البصرة، وقد سافرنا ثلاثة أيامٍ، في اليوم الرابع رأينا البحر قام وقعد وأرغى وأزبد وتحرك وهاج وتلاطم بالأمواج وصار الموج يقدح الشرر كلهيب النار، وهاجت علينا الأرياح والتطم بنا المركب في سن جبل، فانكسر وغرقنا، وراح جميع ما كان معنا في البحر. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد