لم يكن راهب الفن مجرد نجم عابر في السينما المصرية أو العربية، فمع توالي نجاحاته تجاوزت شهرته الحدود حتى أن مجلة "لايف" الأميركية كتبت عنه مقالا كبيرا ووصفته بأنه تشارلز لوتون، فيما مجلة "باري ماتش" رصدت مشواره الفني بوصفه واحدا من أحسن عشرة ممثلين في العالم، بل أفردت تقييما خاصا لأدوار الشر "المتفردة والمتنوعة" التي قدمها خلال مشواره، أما الناقد الفرنسي جورج سادول فلقد قال عنه انه النسخة الشرقية من أورسون ويلز، ولو قدر لبعض أفلامه أن تعرض في المهرجانات الدولية لحصد عن جدارة أهم جوائزها، ما يفسر لماذا عرضت عليه شركة كولومبيا العالمية المشاركة في بطولة فيلم يصور بهوليود ولكنه رفض نظرا لأن الفيلم يسيء بصورة أو بأخرى إلى العرب كما صرح الراحل في أحد حواراته.
مشاكل... مشاكل
هو أيضا أحد رواد مدرسة الاندماج ولكن بوعي وربما لهذا حقق تلك المكانة على حد وصف الناقد الراحل سامي السلاموني، مشيرا الى أن زكي لم يكن يغوص في الشخصية التي يلعبها لحد التلاشي ومن ثم ينسى شخصيته الحقيقية، ولكنه كان دائما قادرا على العودة ولكن في التوقيت المناسب، رغم أن المشاهد وحتى من يشاركونه التمثيل للحظات كثيرة كان يختلط عليهم الأمر هل بالفعل يمثل أم أنه توحد مع الشخصية بصورة يصعب تخيلها، حتى أن بلاتوهات السينما كثيرا ما ضجت بالتصفيق كلما انتهى من أداء أحد مشاهدها. الطريف أنه تسبب في كثير من المشاكل جراء هذا الاندماج، فمثلا أثناء تصوير فيلم "أنا الماضي" للمخرج عزالدين ذوالفقار كان المشهد يتطلب أن يضرب سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وبالفعل ضربها بقسوة لدرجة أنها صرخت من شدة الألم و"اتكهرب الجو" كما حكى الراحل محمود ذوالفقار، واعتكفت في حجرتها بالاستديو حتى هدأت وتفهمت الموقف، وأن هذا العملاق كان "مندمجا" ولا يقصد ايذاءها، نفس الأمر تكرر معها مرة أخرى أثناء تصوير فيلم "عائشة" حيث ضربها بقسوة شديدة عندما تقمص دور والدها السكير، ورغم انها كانت قد طلبت منه قبل التصوير ألا يضربها على وجهها بشدة، فإنه نسي وعده في ظل اندماجه ما دفعها لأن تستغيث بمخرج الفيلم جمال مدكور.أما الفنانة صباح فقد تلقت صفعة قوية على وجهها أثناء تصوير فيلم "إغراء" للمخرج حسن الإمام، إذ تجرأت وسخرت من اندماجه، حيث كان يجسد دور رجل متزمت لم يتذوق حلاوة الحب طوال حياته، وبعد مقاومة تتهاوى كل الموانع والمحاذير التي كان يقمع بها غرائزه بعدما استبدت به الشهوات تجاه فتاة جميلة في قمة أنوثتها، وتصل سيطرة زكي رستم على طاقته الإبداعية إلى الحد الذي نفخت فيه العروق تحت جلد رقبته وجبهته، إلا أن صباح كما حكى الراحل حسن الإمام أفلتت منها ضحكة أثناء تصوير المشهد مما أخرج رستم عن اندماجه فصفعها وسط ذهول الجميع، إلا أنه بعدما هدأ حرص على أن يعتذر لها وهي أيضا اعتذرت عن سخريتها. فيما الفنانة ماجدة كانت تشعر بالرعب من الفنان زكي رستم أثناء تصوير مشاهد عديدة في فيلم "أين عمري" للمخرج أحمد ضياء الدين، حيث كانت الأحداث تدور حول عزيز الكهل الذي يتزوج من فتاة في عمر أحفاده ومن ثم يسقط فريسة المرض والغيرة لأنه لا يستطيع أن يتواصل مع زوجته الشابة التي يتقدم لخطبتها ابن الجيران، مما يزيد إحساسه بالعجز فانهال عليها يضربها ويعذبها.وفي أحد الحوارات التي أجريت مع الفنانة ماجدة حكت كيف كانت تخشى تصوير هذه المشاهد، وأنها كانت تطلب من مخرج العمل أن يتدخل فورا إذا ما اندمج زكي رستم، بل انها طلبت ألا توجد أصلا في أحد المشاهد التي كان يضربها فيها، إلا أن رستم رفض لأنه لا يجيد التمثيل أمام "هواء" على حد وصفه، أما أكثر مشاهد الفيلم التي أصابتها بالرعب فكان عندما يفرغ هذا الكهل إحساسه بالعجز فيندفع محموما ليضرب فرسته الأثيرة بالسوط وبمنتهى القسوة.
يفكر ويخطط ويراوغ
وحش الشاشة فريد شوقي هو الآخر عانى من اندماج زكي رستم أثناء تصوير فيلم "الفتوة" لصلاح أبوسيف، ففي مشهد الاشتباك بينهم اندمج كالعادة زكي رستم وظل يكيل اللكمات لفريد شوقي الذي "أخذته الجلالة" هو الآخر وراح يشبعه لكما وضربا، ومن جانبه رفض المخرج صلاح أبوسيف إيقاف التصوير فلم يكن يحلم بمشهد واقعي لهذه الدرجة ومن دون الاستعانه بأي دوبلير.وفي نفس الفيلم أصر زكي رستم أن يدخل فريد شوقي ثلاجة الخضراوات، مشددا على ضرورة القيام بتشغيلها بالفعل حتى يكون مشهد اختناق من الغاز طبيعي، ومن جانبه اقتنع أبوسيف برأي أستاذ الاندماج ومن ثم لم يستطع وحش الشاشة الاعتراض. وقد حكى الراحل فريد شوقي عن علاقته براهب الفن زكي رستم في أحد حواراته قائلا: مع زكي رستم أشعر كأنني ألعب الشطرنج فهو متآمر، يفكر ويخطط ويراوغ بذكاء شديد، ما يتطلب مني أن أكون منتبها ومتيقظا طوال الوقت، كما أنني أحاول قراءة ما يدور في ذهنه من خلال لفتة أو نظرة أو حركة.وللحق فإن ملاحظة فريد شوقي صحيحة تماما وتمتد لتشمل أسلوب زكي في الأداء بشكل عام، فهو ليس من النوع الذي تعصف به انفعالاته ولكنها تمر من خلال عقله يسيطر عليها ويتحكم فيها فلا تخرج منه إلا بالقدر الذي يشاؤه، وهو ما اعترف به الراحل زكي رستم في أحد حواراته القليلة، مؤكدا أنه مهما صال وجال يظل دوما واعيا "للشعرة" التي تفصل بين الواقع والتمثيل، صحيح يتعايش مع أدواره بصدق ووعي وحرفية عالية، لكنه في النهاية يحرص على أن يكون في كامل سيطرته على الشخصية حتى تخرج بالصورة التي يتمناها ومهما كانت تحولاتها، مثل دوره في فيلم "هذا جناه أبي" 1945 للمخرج هنري بركات حيث جسد شخصية محام يوكل له صديقه الدفاع عن ابنه ضد فتاة تتهمه بأنه أغواها، ونرى هذا المحامي الماهر يبدو متشددا فيما يخص مسألة الشرف، حيث يستخدم مفردات لفظية عن الشرف والخطيئة ضد الفتاة التي سلمت نفسها لرجل آخر، إلا أنه يكتشف أن هذه الفتاة ما هي إلا ابنته من امرأة كان قد أخطأ معها وماتت تاركة هذه الابنة لأسرة تقوم بتربيتها، ليكتشف حامي الشرف أن الخطيئة تتكرر.وهذا الفيلم يعد من أعمال زكي رستم التي برع في تجسيد تحولاتها المختلفة من موقف للعكس تماما، وفي نهاية الفيلم نجده يدافع وبنفس القوة عن ابنته التي أخطأت مع شاب لاه.وهكذا ولإحكام قبضته على شخوصه كان لابد من تفهمها بشكل جيد ليتمكن من الوقوف على شكلها الخارجي ورسم ملامحها الداخلية ومن ثم يبرع في تقديمها، فعلى سبيل المثال لا الحصر قدم زكي دور التاجر في 3 أعمال هي "السوق السوداء" لكامل التلمساني عام 1945، و"الفتوة " لصلاح أبوسيف عام 1957 و"الخرساء" لحسن الإمام 1961، حيث نجده يبرز الملامح العامة المشتركة بين التجار بنزعتهم التقليدية للكسب السريع وشراستهم وميلهم للسيطرة على السوق بأي ثمن وبأي وسيلة، ورغم هذا نجح زكي في أن يظهر الملامح الداخلية المستقلة لكل شخصية على حدة والتي يمكن تلمسها من خلال عشرات التفاصيل الخاصة والتي يضيفها زكي بمهارة وخبرة عميقة بالحياة، رغم أنه عاش معتزلا الناس كما عرف عنه.نماذج
نفس القدرة على تفهم الفروق بين الشخصيات التي قد تبدو متشابهة وتقديم كل نموذج بشكل متفرد يمكن تلمسها أيضا عبر نموذج "الباشا" الذي قدمه الفنان العظيم زكي رستم في أكثر من فيلم، مثل "ياسمين" 1950 إخراج أنور وجدي (الباشا ذو القلب الرقيق الذي يبحث عن حفيدته)، و"نهر الحب" 1960 لعز الدين ذوالفقار(السياسي الشرس الداهية، شديد القسوة)، و"صراع في الوادي" 1954 ليوسف شاهين (الباشا الفاسد الطماع الذي يحيك المؤامرات انتقاما من المهندس الزراعي الذي نجح في تحسين سلالة القصب الذي يحتكر تصديره)، و"لن أبكي أبدا" 1957 لحسن الإمام (والذي قدم من خلاله درسا في تحولات الشخصية من الجبروت للانكسار وتفاصيل إنسانية كثيرة)، باختصار كل "باشا" يختلف عن غيره تماما بفضل موهبته ورحابة خياله وقدرته على التلون بحيث تظهر كل شخصية ولها بصمتها الخاصة. كذلك أدوار الشر لم يلجأ الى "الكليشيهات" المعتادة، ولكنه كان قادرا على إبراز ما بداخل هذه الشخصيات من اختلافات، فإذا استطعت الفرار من نظرة عينيه وهو أمر صعب إذ يستحيل عليك تجاهل وجوده حتى لو أعطى للكاميرا ظهره، ولو أراد هذا العبقري التخصص في أدوار الشر والقسوة والحدة ما وجد معاصروه ممن احترفوا هذه الأدوار عملا، لكنه كان رحيما بهم ولم يقدمها إلا على فترات متباعدة، فرأيناه مثلا أبا قاسيا يفرق في المعاملة بين والديه حتى يؤدي بهما إلى كارثة كما في امرأة على الطريق 1958 لعزالدين ذوالفقار، أو شحات زعيم العصابة قاسي القلب في "ملاك وشيطان" 1960 من إخراج كمال الشيخ، والمعلم عتريس كبير القرية الظالم في "الخرساء" 1961 مع المخرج حسن الإمام، والريس متولي عبدربه الذي يطمح في الزواج من ابنة صديقه فيغرقه في الديون ليتزوج بها كما في "حب ودموع" 1955 من إخراج كمال الشيخ، وطاهر باشا الزوج الارستقراطي الفظ الذي يعامل زوجته الرقيقة كقطعة أثاث حتى يدفعها لنهاية مأساوية كما في "نهر الحب" 1960 للمخرج عزالدين ذوالفقار.كذلك في "الحياة كفاح" 1945 لجمال مدكور يقوم بدور الأب القاسي الذي يعترض على زواج ابنه الوحيد من ممرضة أحبها بسبب الفوارق الطبقية وينجح بالفعل في التفريق بينهما بحيل ومؤامرات قبل أن يكتشفها الابن ويتمرد على والده ويعود لزوجته، وفي "عائشة" لجمال مدكور عام 1953، قدم نموذجا آخر لأب شديد القسوة لا يعرف الرحمة أبدا، حيث جسد شخصية مدبولي بائع اليانصيب الذي يدفع ولديه للعمل في النشل وابنته عائشة لبيع اليانصيب في الشوارع وعلى المقاهي، غير أن القدر يكون رحيما بها حيث يرق لها قلب أحد الأثرياء فيعرض أن يتبناها مقابل راتب شهري فيوافق الأب السكير، فيما الرجل الثري يقوم على تعليمها وتربيتها على أحسن ما يكون، غير أن الأب الجشع وفي مشهد كفيل بأن تكره زكي رستم طيلة عمرك يقرر أن يعيد ابنته للشوارع مجددا وهو يجر ابنته بمنتهى القسوة.حادث مأساوي
الجميل أن الموهوب العبقري زكي رستم قدم في هذا الفيلم تحولا في الأداء فبعد كل هذا الجبروت يتحول الأب للنقيض تماما حينما يتوفى ابنه في حادث مأساوي فيتوب إلى الله ويترك لابنته الحرية بأن تتزوج الشاب الثري الذي أحبته.وقد ارتدى زكي ثوب الشرير في الأفلام التاريخية ايضا من خلال فيلم "حكم قراقوش" 1953 للمخرج فطين عبدالوهاب، حيث جسد دور الحاكم الظالم الذي يسعى لاستمالة فتاة من الشعب تعترض على الارتباط به لأنها تقف ضد ظلمه، و"مسمار جحا" عام 1952 إخراج إبراهيم عمارة.أباطرة السوق
لكن يبقى ذروة أداء دور الشرير في فيلم "الفتوة" لصلاح أبوسيف عام 1957 مجسدا شخصية المعلم أبوزيد أحد أباطرة السوق الذي يحتكره بمنتهي القسوة، ولا يتورع في الخلاص من منافسيه بلا رحمة، حيث حلق بعيدا عن النمطية في الأداء خصوصا وهو يعبر عن منتهى المقت والغضب عن طريق الضغط على حروف كلمات المجاملة التي يوجهها لتابعه الذي خانه فريد شوقي، بصوت منخفض مشحون بالنذير وكأنه يتوعدهم.ليظل السؤال كيف يكون المعلم أبوزيد هو نفسه حفيد محمود باشا رستم؟ انها الموهبة المتفردة التي جعلته يبرع في التبدل بين أنماط اجتماعية مختلفة والمرور بمراحل انفعال متنوعة في براعة ويسر وإقناع.نبوءة رستم «الجمهور عاوز كده»
كان للراحل زكي رستم آراء نقدية ثاقبة حيث تحدث عن حال السينما وكان ذلك عام 1950 مقيما وضعها لنكتشف أن الأمر يكاد يكون متطابقا بعد أكثر من نصف قرن، وكأنه كان يتنبأ بالنجاح المحدود الذي تحققه الأفلام الجادة مقارنة بالأفلام "التجارية"، إذ كان يرى أن حجم "الطبقة المثقفة" محدود، ولا يكفي لدعم الأفلام المتميزة فنيا سواء شكلا أو مضمونا، مدللا على كلامه بأن معظم هذه الأفلام لا تحقق إيرادات تكفي لتغطية تكلفة انتاجها، وأن اقصى فيلم ربما لا يصمد بدور العرض أكثر من 4 أسابيع على أقصى تقدير وربما أقل (وهو ما حدث ويحدث فعليا)، بالإضافة لأن هذه الطبقة لا تشاهد الأفلام "التهريجية" ولا اسميها كوميدية (على حد وصفه) لأن الكوميديا فن محترم له أصول وقواعد، وللأسف كثير مما يقدم تحت هذا المسمى لا علاقة له بالكوميديا أصلا، وواصل الراحل مؤكدا أن السبب وراء ذلك يرجع لأن المنتج أولا وأخيرا تاجر وما يهدف إليه هو الربح فقط او على الاقل استرداد ما أنفقه، لذلك فهو حريص دائما على استرضاء الجمهور وتقديم ما يحبه فقط.