يقول نزار في كتابه "قصتي مع الشعر": الشعر هو الصورة والمثال للأمة، يتألق بتألقها، ويشحب بشحوبها. وليس صحيحاً أننا متخلفون لأن شعرنا متخلف، ولكن الصحيح أن شعرنا دخل في مرحلة الكسوف يوم دخلنا نحن في مرحلة الكسوف.ونتابع في هذا الجزء حياة شاعرنا العملية والشعرية، وأهم المواقف التي تعرض لها، حتى تاريخ استقالته من الحياة السياسية نهائيا وتفرغه بالكامل للشعر.
انتقل نزار في عمله الدبلوماسي من لندن ليستقر في أحضان الصين هذه المرة، بين عامي 1958 و1960، فعين وقتها سكرتيرا ثانيا للجمهورية العربية المتحدة، بعد إتمام الوحدة بين سورية ومصر سنة 1959. (أعلنت الوحدة في الثاني والعشرين من شباط عام 1958 بتوقيع ميثاق الجمهورية العربية المتحدة من قبل الرئيس السوري شكري القوتلي والمصري جمال عبدالناصر، واختير الأخير رئيسا، والقاهرة عاصمة للجمهورية المتحدة، وفي عام 1960 تم توحيد برلماني البلدين في مجلس الأمة بالقاهرة، وألغيت الوزارات الإقليمية لمصلحة وزارة موحدة في القاهرة أيضا، وانتهت الوحدة عام 1961 في الثامن والعشرين من سبتمبر). ويبدو أن هذه المرحلة من حياة نزار كانت خارج نطاق شعره، فلم تستطع القصائد الإنجاب ولم تكن حبلى بالكلمات كما كان يشتهي، فصبغت بالحزن، وتمخضت السنتان الصينيتان فأنجبتا قصيدتين حزينتين هما قصيدة "نهر الأحزان" وقصيدة "ثلاث بطاقات من آسيا"، كما أن الانطوائية التي عاشها نزار تلك المدة أنجبت له كتاب "يوميات امرأة لا مبالية"، الذي طبع في بيروت عام 1968، أي بعد عشر سنوات من كتابته.
قيود قاسية
في الصين طبق على الدبلوماسيين في تلك الفترة نظام بطبيعة مختلفة عن غيرها من البلدان بقيود مفروضة وقاسية، فلم يستطع نزار أثناء إقامته في الصين التحاور مع الإنسان الصيني والدخول في أي حوار معه، فقد سمح لهم برؤية بعض المناطق في هذا البلد وهي عبارة عن دائرة قطرها ثلاثون ميلا مركزها مدينة بكين، أما بقية المدن فقد كانوا يذهبون إليها في رحلات دبلوماسية تنظمها إدارة البروتكول في وزارة الخارجية الصينية. ويكتب نزار في مذكراته عن هذه المرحلة الصفراء اللون من حياته الشعرية قائلاً:كنت أريد أن أقعد وحدي تحت شجرة بامبو صينية أو أشم وحدي زهرة لوتس، أو آخذ بين ذراعي طفلة صينية العينين، ولكن نزواتي الطفولية كانت مستحيلة التحقيق، فكل أشجار البامبو وكل زهور اللوتس وكل أطفال الصين لا تكلم الأجانب، وإذا تكلمت فلابد من حضور مترجم رسمي يسجل كلامها في محضر.كنت أريد أن أكتب للصين قصيدة حب واحدة، ولكنها منعت مواعيدها عني وأغلقت باب شرفتها... وفي الصين تفتحت زهور الشحوب على دفاتري، وكبرت حتى صارت أوراقي غابة دمع.في قصيدته "ثلاث بطاقات من آسيا" يقول: فيروزتي ما زلت في سفينتي أصارع الشموس واللصوص والدوار نزلت في مرافئ موبوءة المياه صليت في معابد ليس لها إله قتلت ألف مرة غرقت ألف مرة صلبت فوق حائط النهار وسبعة قطعتها... من أوسع البحارمن أخطر البحار لمست سقف الشمس كانت رحلتي انتحارإسبانيا الدمشقية
ينتقل نزار في رحلته الدبلوماسية إلى إسبانيا، ويعيش فيها أربع سنوات بين عامي 1962 و1966، وكان يجد فيها ما افتقده في دمشق، خصوصا عند ذهابه إلى غرناطة، فروائح الياسمين هي ذاتها والنارنج والورد البلدي ومواء القطط، وقضى في مدريد العاصمة أربع سنوات يقول عنها: "عدت أحمل على دفاتري، قطعة من سماواتها، وحرائق من عيون نسائها، ومدامع من أعين قيثاراتها، وأساطير من بطولة ثيرانها، وشراراً من أصابع راقصاتها، وأنهارا من أحزان مغنيها... وكل أشجار الزيتون على ضفاف نهر (الوادي الكبير) كانت تغني في الليل أشعار رافائيل ألبرتي، وأنطونيو ماتشادو، وخوان رامون خيمينيس، وخوستافو ألفونسو بيكر".وكان نتاج هذا التأثر أن أصدر مجموعتين شعريتين "الرسم بالكلمات 1966" وقصيدته النثرية "مذكرات أندلسية"، ويعتبر هذا الديوان من أكثر الدواوين التي أثارت جدلاً، بعد صدوره مباشرة. يضم ديوان الرسم بالكلمات ثلاثاً وأربعين قصيدة، منها: "مدخل- القصيدة البحرية- أحلى خبر- صباحك سكر- حقائب البكاء- حبك طير أخضر- القصيدة البحرية- الحسناء والدفتر- يدي- ثمن قصائدي- بعد العاصفة- الدخول الى هيروشيما- الى تلميذة- يوميات قرصان- مرثاة قطة- ماذا أقول له؟- المجد للضفائر الطويلة- لو كنت في مدريد- بريدها الذي لا يأتي- لا تحبيني- اغضب- يجوز أن تكوني- تعوّد شعري عليك- خمس رسائل الى أمي- إلا معي- ساعة الصفر- مهرجة- التفكير بالأصابع- النقاط على الحروف- دموع شهريار- امرأة من زجاج- ديك الجن- من منكما أحلى؟- قبل وبعد- أخاف- ماذا ستفعل؟- استحالة- أوراق إسبانية- أحزان في الأندلس- غرناطة".ويقول في قصيدة "تعود شعري عليك": تعوّد شعري الطويل عليك تعودت أرخيه كل مساء سنابل قمح على راحتيك تعودت أتركه يا حبيبي كنجمة صيف على كتفيك فكيف تمل صداقة شعري؟ ثلاث سنين ثلاث سنين تخدرني بالشؤون الصغيرة وتصنع ثوبي كأي أميرة من الأرجوان... من الياسمين وتكتب إسمك بين الضفائر وفوق المصابيح... فوق الستائر ثلاث سنين وأنت تردد على مَسمعيَّا كلاما حنونا .. كلاما شهيا وتزرع حبك في رئتيّا وها أنت... بعد ثلاث سنين تبيع الهوى... وتبيع الحنين وتترك شعري شقيا... شقيا كطير جريح... على كتفياالتلفزيون المصري الرسمي
قبل صدور هذا الديوان ونشره للعلن، أجرى التلفزيون المصري الرسمي لقاء خاصا مع الشاعر الكبير عام 1966، أي بعد ست سنوات على بدء اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري بث برامجه لأول مرة على الشاشة. حاورته المذيعة المصرية سلوى حجازي، وضمن الأسئلة التي طرحت على نزار حول الديوان: المذيعة: ديوانك الأخير لازم نجيب سيرتو ولو إنو القراء ما وصلهمش "الرسم بالكلمات"، الاسم جميل أوي حقيقي يعني، لكن اللي بالداخل بقى، أنا قرأت الديوان وحقولوكو فيه إيه، فيه إحساس فظيع جدا بالملل الشديد، هو الملل من إيه أستاذ نزار؟ نزار: الملل شيء طبيعي جدا، فالشجرة تمل من ورقها في بعض الأحيان، بالخريف تطرحه على الأرض. البحر يمل من أصدافه فيطرحها على الشاطئ. والنهر يمل من نفسه فيطرح مياهه في البحر، الشاعر يمل حتى نفسه، حتى جلده يمل، فالملل ينبع من عجزنا في بعض الأحيان من تغليف الأشياء التي تحيط بنا.لماذا الأطفال لا يملون، مثلاً الطفل يستطيع أن يخلع على الأشياء المحيطة به خيالاً، لكن حين يكبر عقل الإنسان ويرى الأشياء بحدودها الطبيعية أمامه، بحدودها الصارمة القاطعة، فمنها ينبع الملل. المذيعة: في حاجة بالديوان صدمتني، وهو إنو التمثال الجميل الرائع اللي كنت بتعملو للمرأة طول السنين، كأنك عاوز تنتقم منو أو تكسرو مثلا، بتحاول تجرحها أو تهينها ليه؟ نزار: في بعض القصائد التي قرأتها في "الرسم بالكلمات" كنت أعيش المأساة، لم أكن أهين المرأة أو أشتمها بقدر ما كنت أعبر عن تمزقي الداخلي وعن نزيفي. المرأة دائما كانت مصدراً جمالياً لي، كانت ولا تزال وسوف تبقى، إلا أن تجاربي لا تكون كلها سمنا وعسلا، يمر الإنسان بحالات يكون فيها سعيدا، ومرات يكون فيها متألما وينزف نزيفا داخليا كبيرا، والشاعر لابد له أن يصور مأساته في كل هذه الأزمات وهذه الحالات.المذيعة: بعد الرسم بالكلمات حتعمل إيه؟ هل ستحاول أن تخرج من الإطار بتاع المرأة؟نزار: بالمستقبل لا أستطيع أن أضمن كيف سيكون عليه شعري، دائما أبحث عن الأشياء الجديدة حتى ضمن دائرة المرأة التي عانيتها وعالجتها، دائما يكون الجديد مختلفا عن الدواوين السابقة، كما لاحظتي في الرسم بالكلمات، فهو يمثل موقفا جديدا من المرأة ومن قضية الحب.وسنفرد لهذا اللقاء في الحلقات القادمة حيزا كبيرا، لأهميته من ناحية المرحلة، التي كان يمر بها نزار، وتأثيراتها على شعره وكيف تعامل نزار معها جميعا.وثيقة جنائية
أثار ديوان "الرسم بالكلمات" الذي حمل نكهة إسبانية حارقة بكلمات مشتعلة ومتوترة؛ كمصارعة الثيران، أو كمشهد راقصة إسبانية تضرب الأرض بكعب حذائها فيتطاير الشرر الأحمر ليحرق الصالة والمشاهدين... نعم أثار جدلا واسعا بعد صدوره، وفي مراحل متعددة بعد سنوات عديدة طويلة، وربما حتى الآن، وقد أصبح وثيقة جنائية ضده يستخدمه بعض النقاد للتشهير به، إلا أن حملة الهجوم فشلت بعد نفاد الديوان من الأسواق خلال أيام معدودة.يقول نزار: حين قلت هذا الكلام اعتبروا ذلك اعترافاً خطياً مني بارتكاب الجريمة وأدانوني بالشهريارية. الذين رأوا غرفة نومي يعرفون أنها لا تحتوي إلا على سرير مفرد، ومنفضة سجائر، ومصباح صغير، وقلم، ودفتر عليه خربشات غير مفهومة لقصائد لم تتم... لا سكاكين عندي، ولا قناني سم، ولا مخططات لقتل أحد... أنا لا أحترف قتل الجميلات.وطلب نزار عدة مرات أن تخرجه الصحافة العربية من قارورة الحب والمرأة، بعد اشتداد الهجوم الضاري عليه... إذ إن عباس العقاد وصفه بأنه الشاعر الذي دخل يوما مخدع أنثى ولم يخرج منه... ليرد عليه القباني: ويقول عني الأغبياء:إني دخلت إلى مقاصير النساء وما خرجتُ ويطالبون بنصب مشنقتي...لأني في شؤون حبيبتي شعراً كتبتُأنا لم أتاجر مثل غيري بالحشيش...ولا سرقت ولا قتلتُلكنني أحببت في وضح النهار...فهل تراني قد كفرتُ؟وحول القصيدة نفسها واتهام والدها بالشهريارية تقول هدباء ابنة نزار: كان والدي يكتب أحيانا عن أحداث متعلقة به، وأحيانا أخرى عن أحداث متعلقة بغيره. إلا في المرحلة السياسية عندما صارت الأحداث تهزه، أما المواقف الغزلية فكان يبالغ في الموقف ليحدث صدمة في المجتمع، فإذا استفادت منه المرأة عُدت المحاولة ناجحة.اللغة الإسبانية
وفي فترة وجوده في إسبانيا عندما وصلت علاقته باللغة الإسبانية الى مستوى العشق، لاسيما حين استطاعت هذه اللغة أن تحتويه احتواء تاما، قام المستشرق الاسباني بيدرو مونتافث بترجمة مختارات من شعر نزار قباني الى اللغة الاسبانية، وقد صدرت هذه المختارات عن المعهد الثقافي الاسباني العربي تحت عنوان "أشعار حب عربية"، وخلال البحث في زيارات نزار ومشاركاته أيضا في عام 1966 والتي لا يتسع المقام لذكرها جميعا أنه خلال زيارته لمصر زار مكتب المؤرخ والصحافي المصري الراحل كمال الملاخ (مؤسس الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما ومؤسس مهرجاني القاهرة والإسكندرية السينمائيين، وهو أديب وعالم آثار له اثنان وثلاثون كتابا) ليلتقط له المصور الصحافي سمير الغزولي صورا خاصة لوضعها على أعمال الشاعر الكبير، مما يدل أن لنزار شعبية كبيرة في الأوساط الأدبية والفنية في مصر ومحبة بادله إياها مثقفون كثر، مثلما كان له منتقدون ومعارضون لشعره أيضا.بغداد... الاختناق بحبال الحب
ضمن جولات نزار الثقافية جولة مفصلية في حياته العاطفية والشعرية، وكانت في بغداد عام 1962، حيث أقام أمسية شعرية في مارس بحديقة كلية التربية، وهو يقول عنها: كدت أختنق بحبال الحب لو لم يخطفني أحد أساتذة الكلية إلى داخل المبنى. ويبدو أن هذه الزيارة كانت مفتاح بداية الحب الثاني لنزار، إذ إنه التقى حبيبته بلقيس فيها للمرة الأولى، وبدأت قصة الحب بينهما في النمو أعواما طويلة، إلى أن تزوجا لاحقا في بيروت.
لبنان... وطن لنزار وكلماته
بعد سنوات من العمل الدبلوماسي في سفارات سورية بمصر ولندن وبكين ومدريد، أنهى نزار رحلته هذه بالاستقالة عام 1966 لينتقل إلى لبنان الذي أصبح في ربيع ذاك العام وطناً له ولكلماته، وفتح له أبواب الشعر على مصاريعها، وجعله يعيش سعادة الانتشار والإعجاب الكبير به كشاعر، وكان محطة من محطات استقراره العاطفية والزوجية. هناك في بيروت أسس نزار دار نشر خاصة بدواوينه وأسماها باسمه (منشورات نزار قباني)، وكانت المصدر الرئيسي لنشر وطباعة كتبه، ويتحدث بعضهم أن هذه الدار حسنت كثيرا من أوضاع نزار قباني المالية، بل جعلته ثريا إلى حد ما، بفضل مبيعاتها الكبيرة.