أين يهود الكويت من «أم هارون»؟
ستغمر السعادة منتجي مسلسل "أم هارون" التلفزيوني وهم يطالعون الحجم الهائل من ردود الأفعال والتعليقات التي أثارها، فهذا طموح أي منتج، أن يحرك عمله الشارع وبالتالي تتداوله الألسن ومواقع التواصل، لأنه يكون قد حقق هدفه من الانتشار واحتل المراكز الأولى بالمشاهدة وغنم بالفوز الكبير! قد يصدق القول بهذا المسلسل أن "اللعب بالدراما مسموح" لكننا سنتجاوز مجازاً هذا "اللعب" وتلك الإثارة وندعها تأخذ مداها لندخل في صلب الموضوع، فإذا نظرنا إلى العمل من الناحية التاريخية سيسقط المسلسل من أول نظرة، أما إذا أردنا تقييمه من زاوية "الدراما" فلن يكون للذاكرة مكان فيه، لأن أصحاب العمل شطح بهم الخيال بتصوير مشاهد وأحداث أصلاً لم تقع وليس لها مكان من الإعراب. ووفق هذين المسارين، أي بين الدراما المزيفة وكتابة التاريخ هناك فاصل زمني يستحضر الحديث عن اليهود في الكويت والبحرين بصورة مغايرة تماماً لما تم عرضه.
ليس صحيحاً أن اليهود أثناء وجودهم في حواضر الخليج العربي قد تعرضوا للاغتيال أو للقتل ولم تذكر المراجع الموثوقة أن هناك يهودياً اغتيل على مدخل "كنيس" سواء في الكويت أو في البحرين، فهو محض مختلق من خيال الكاتب من أجل التشويق والحبكة كما يزعمون! أما تسمية "أم هارون" فالاسم يبقى في عالم الغيب، لأن السيدة اليهودية في البحرين الأكثر شهرةً تدعى "أم جان" وقصتها روتها بنفسها في مقابلة عرضها تلفزيون البحرين عام 1977.ولكي يضفي كاتب القصة على المسلسل المزيد من التشويق تعمد ألا يحصر العمل في دولة خليجية واحدة علماً أن الوقائع تشير إلى أن أهم ثلاث مدن خليجية وجد فيها اليهود هي الكويت والبحرين وسلطنة عمان. أظن أن كاتب السيناريو وقع في المحظور فقد خلط بين عمل درامي يخلو من المصداقية التاريخية وبين حياة حقيقية معيشة لا تحتمل التأويل أو التزوير، فـ"الكنيس" الذي شهد عملية اغتيال أحد اليهود عام 1948، بالأصل لم يكن موجوداً في هذا التاريخ، وبحسب شهادة الباحث يعقوب يوسف الإبراهيم، وما أضافه من معلومات قيمة في كتابه الصادر عام 2015 عن دار ذات السلاسل بعنوان "محنة الجامعة بين التربية والترضية"، نقد وتقص لكتاب "اليهود في الخليج"، أنه لم يكن في الكويت هذا "الكنيس" عام 1948 بل في فترات سابقة عن تلك المرحلة، وكان عبارة عن أحد البيوت التي حولوها مكاناً للعبادة. إن تناول الوجود التاريخي لليهود في منطقة الخليج ليس فيه غضاضة، فهؤلاء عاشوا بين هذه المجتمعات ردحاً طويلاً من الزمن ولهم محطات فيها تقبلتهم بسعة صدر، كونهم من الأقليات جاؤوا إليها بحثاً عن الاستقرار وممارسة التجارة، بل لهم فيها إسهامات في عالم المصارف والمجوهرات والحرف المهنية، وهذا ما يعزز صورة المجتمعات الخليجية والعربية من حيث التنوع والتعددية الدينية فيها وتقبلها للآخر.المهم في هذا الجانب أن يتم استبعاد تمرير الرسائل السياسية والفصل بين اليهود كأصحاب ديانة سماوية وبين المشروع السياسي الذي جاء على حساب الشعب العربي الفلسطيني بقيام "دولة إسرائيل" عام 1948 وما نتج عنه من صراع طويل وقاس لم ينته بعد وليس كما صوره المسلسل في أول حلقة عندما تحدث عن إقامة دولة إسرائيل في مدينة تل أبيب وعلى أرض إسرائيلية!أعتقد أن المسلسل أبعد ما يكون عن التوثيق وعرض الحقائق كما هي، فالمشاهد التي قدمها فيها الكثير من المبالغات، فقد عرف عن اليهود تاريخياً أنهم يعيشون وسط "الغيتوات" أي "الغيتو" في الدول التي يقطنون فيها، ومخالطتهم الاجتماعية مع الآخرين تكاد تكون محدودة جداً إلا فيما يتصل بعلاقات التعامل اليومية والتجارة التي يمارسونها.استغربت كثيرا من صورة المظاهرة التي خرجت في أحد الأحياء الخليجية عام 1948 ولا ندري أين هي أصلاً هل هي في الكويت أم في البحرين، وهي تهتف "القدس لنا والأقصى لنا وفلسطين عربية"، يتصدرها يهود ومسيحيون ومسلمون ويدا بيد وبشكل يناقض الواقع تماماً؟ أما تصويره لليهود بأنهم يبيعون المشروبات الكحولية (العرق) ويضعونه في سطل الحليب عندما تأتي سيدات خليجيات وهن يحملن الأسطل هكذا وعلى مرأى ومسمع من الجميع فتلك الصورة مبالغ فيها جداً، فالروايات المتداولة أن بعضهم كان يبيع المشروبات الكحولية سراً ويضعها في إناء الحليب لمن يرغب ويطلب. اليهود ليسوا ملائكة، كما غيرهم من الأجناس البشرية، فهناك أفراد ومجموعات تصدر عنهم سلوكيات غير سوية أو ممارسات غير مقبولة لا يجوز أن تعمم على الجميع، ويوضعون في سلة واحدة، وإن اتسمت الشخصية اليهودية بمجموعة خصائص كانت محل دراسة من قبل علماء الاجتماع، وأشبعوها بحثاً وتنقيباً، ليس المكان المناسب للحديث عنها.