تمرّ البشرية عامة هذه الأيام، بوباء انتشر في قارات العالم كافة، هو فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، حيث تُبذل الجهود على كلّ الصُّعد لمواجهته، وقد أدى ذلك إلى توقّف شبه تام في جميع نواحي الحياة، وقد ارتفعت أرقام الإصابات بشكل مطّرد، لتصل إلى ما يقارب 3 ملايين إصابة، فضلا عن ارتفاع أعداد الوفيات، لتصل إلى نحو مئتي ألف نسمة.

Ad

وقد هيمنت أخبار انتشار هذا الفيروس بنسبة 90 بالمئة من الأخبار سواء المسموعة، أو المرئية، أو المقروءة، وحفلت وسائل التواصل الاجتماعي أيضا، بأخبار تطورات هذا الوباء.

والواقع أن البشرية شهدت، على مرّ العصور، ظهور العديد من الأوبئة والأمراض، التي كانت تفتك بملايين البشر، واستطاع الإنسان أن يواجه هذه الأوبئة باكتشاف العلاج اللازم لها، إلا أننا نواجه اليوم وباء مستجدا، حيث تبذل الجهود لإيجاد لقاح يقضي عليه، غير أن ذلك يحتاج إلى المزيد من الوقت، ونأمل أن يتم ذلك في أسرع وقت ممكن.

ومشاركة منّا في إلقاء الضوء على نموذج من هذه الأوبئة التي عانتها البشرية، خاصة أن قسم التاريخ بكلية الآداب في جامعة الكويت، عقد في الفترة الماضية المؤتمر الدولي الإلكتروني تحت عنوان «الأوبئة عبر التاريخ».

وعلى مدى يومين، عُرضت حوالي 70 ورقة علمية، وهو جهد يشكر عليه قسم التاريخ، وذلك لإلقاء الضوء على تاريخ الأوبئة والجهود التي بُذلت لمواجهتها، وذلك كي يُلمّ القارئ بتطورات هذا الموضوع.

وإسهاما منا في المشاركة بهذا الموضوع المهم، فإنني آثرت أن أتعرّض لمرض الإسقربوط، الذي ظهر في أواخر القرن الخامس عشر، حيث شكّل آنذاك تهديدا لحياة البحّارة على وجه الخصوص، وقد أدى إلى هلاك مئات البحارة، حتى أصبح كابوسا لكل البحّارة والمستكشفين.

ما هو مرض الإسقربوط؟

تعود تسمية هذا المرض بهذا الاسم إلى حمض الإسكوربيك، وهو الاسم العلمي لفيتامين C، وسمّي أيضاً بالبثع أو الحفر، وسمي أيضاً بطاعون البحر، لأنّه كان يصيب البحارة، وأول من عرفه الإغريق، ولم تكترث أوروبا بهذا المرض عند ظهوره.

ومن أعراض هذا المرض فساد اللثة، وتعفّن الأسنان، وانتشار البقع ذات اللون الأحمر، أو الأزرق أحياناً في الجلد، فضلا عن إحساس المصاب بالآلام الشديدة وصعوبة في التنفس وتقلّص الأطراف، ثم الموت في نهاية الأمر.

التطور التاريخي للمرض

منذ أواخر القرن الخامس عشر، وبداية القرن السادس عشر بدأ الاهتمام بهذا المرض بعد ظهور الرحلات الطويلة في البحر، وذلك بغية اكتشاف أراض جديدة، أو لأغراض تجارية، واعتبارا من عام 1499م، وبينما كان الرحالة فاسكو دي جاما يبحر بسفنه حول القارة الإفريقية، للوصول إلى الهند، فقد خسر ثلثي بحّارته بسبب هذا المرض، بينما خسر القائد ماجلان أكثر من 80 في المئة من بحّارته بسبب هذا المرض أيضا، وقد لعبت عوامل أخرى دورا مهما في تفشّي هذا المرض بين البحارة، منها وجودهم فترات طويلة على ظهر السفن داخل البحر، وعدم قدرة هذه السفن على حمل أغذية تحتوي على فيتامين C لمنح البحّارة المناعة المناسبة لمواجهة هذا المرض، واعتمادهم على أكل اللحوم المملحة، والحبوب المجففة وقطع البسكويت.

أورد العديد من الملاحين الذين عاصروا تلك الفترة في مذكراتهم تلك المشكلات الغذائية التي كانوا يواجهونها، فقد جاء في إحدى مذكرات أحد الملاحين الذين رافقوا ماجلان عام 1515، أنهم كانوا يضطرون أحيانا إلى أكل الفتات المملوء بالديدان، وأحياناً يأكلون الفئران، ويذكر أن عدد البحارة في واحدة من الرحلات كان 250 بحاراً هلكوا جميعا، ولم يبق منهم سوى ثمانية عشر رجلاً، وذلك بسبب تفشي مرض الإسقربوط بين صفوفهم.

وفي أربعينيات القرن الثامن عشر، بذلت بريطانيا جهودا مضنية للتعرف على هذا المرض، خاصة بعد أن فتك بأعداد كبيرة من البحارة، الذين كانوا تحت قيادة القائد البحري البريطاني جورج إنسون أثناء الصراع البريطاني الإسباني.

والواقع أنه في الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، فقد أصاب هذا المرض جميع البحارة بالهلع والخوف، وتسبّب خلال ثلاثة قرون، في موت حوالي مليوني نسمة، وقد تجاوز هذا العدد من الوفيات، ما سبّبته الحروب والعواصف التي كانت تحدث في ذلك الوقت.

تطوّر العلاج

بُذلت جهود مضنية لإيجاد علاج لهذا المرض، وتولّى العلماء إجراء البحوث والدراسات لمواجهته، وقد تطوّر علاج هذا المرض عبر العصور، لكنه بدأ بشكل متأخر اعتبارا من عام 1740، فقد وضع المؤرخ ستيفن باون كتابه «الاسقربوط»، الذي تناول من خلاله تلك المحاولات التي قام بها الأطباء، لاكتشاف علاج لهذا المرض، وقام برحلة بحرية في تلك السنة، بمرافقة أربعة من العلماء، وتوصل إلى نتيجة مفادها أن أفضل علاج لمرض الإسقربوط هو استخدام الحمضيات.

وفي عام 1536، وأثناء قيام المستكشف الفرنسي جاك كارتييه برحلة عبر نهر سانت لورانس بأميركا الشمالية، حيث لاحظ إصابة أحد سكان المنطقة بمرض الإسقربوط، إلا أنه لاحظ أيضا شفاء هذا المريض بعد أربعة أيام، فتساءل عن هذا الأمر، فأخبره السكان بأنهم قدّموا له علاجاً من الأعشاب يتكون من نبتة العفص الغنية بفيتامين C، وقد استفاد كارتييه من هذا العلاج لإنقاذ نسبة كبيرة من بحارته.

أما في عام 1747 م فقد قام د. جيمس لند، وهو طبيب يعمل في البحرية الملكية البريطانية بعدة تجارب، توصل من خلالها أيضا إلى أن الحمضيات كافة تعتبر علاجا لهذا المرض، لكنّه أقر في الوقت نفسه أن لا علاجا ناجعا له حتى ذلك الحين، وقد ضمّن هذا الرأي في أطروحته الموسومة «أطروحة حول الاسقربوط»، التي نشرت بين عامي 1753 و1772، عرض خلالها كل أبحاثه التي أجراها حول هذا المرض.

ومن الذين بذلوا جهدا في مكافحة هذا المرض أيضا، ضابط البحرية البريطانية جيمس كوك، الذي قام بأول رحلة بحريّة في المحيط الهادي في عام 1768، واستمرت حتى عام 1771، إلا أنه قُتل في رحلة لاحقة عام 1772، على أيدي السكان في هاواي، لكنّه استطاع أن يقدم علاجاً لمرض الإسقربوط، يحتوي على مواد عدة، منها الكرنب، والخردل وعصير الليمون والبرتقال، وكان من نتائج ذلك انخفاض أعداد الوفيات بين البحارة.

العلاج بالحمضيات

وفي عام 1780 م كتب د. بلين، وهو مؤسس الطب البحري عن الحمضيات وأثرها في علاج مرض الإسقربوط، ما مضمونه أن الحمضيات، وإن كان تأثيرها مهما في علاجه، إلا أنه غير مقتنع، حتى ذلك العام، بأن تلك النظريات التي تناولت طبيعة هذا المرض وطرق علاجه تحتاج إلى 150 عاما، ولا يمكن الجزم بأن فيتامين C، هو العامل الأساسي في علاج هذا المرض.

واعتبارا من منتصف ثمانينيات القرن الثامن عشر، استطاع د. روبرت روبرتسون ود. غيلبرت بلاني إقناع قيادة البحرية البريطانية بأن عصير الليمون هو العلاج المناسب للمرض، وقد اقتنعت البحرية بذلك، وقامت باعتماده رسميا لعلاج مرض الإسقربوط عام 1795.

واستمرارا للجهود التي بُذلت لعلاج هذا المرض، فقد تمكّن عالم الكيمياء الحيوية المجري ألبرت شينتغيورجي في عام 1928، من استخلاص فيتامين C من عصائر النباتات وإفرازات الغدة الكظرية، والذي اعتُمد في عام 1932 بأنه العلاج الأفضل لمرض الإسقربوط، واستمرت الجهود المبذولة في هذا الشأن.

في عام 1933، استطاع الكيميائي نورمان هاورث والكيميائي السويسري تاديوس ريشتاين، كل على حدة، استخلاص فيتامين C، عن طريق التركيب الكيميائي، وكان ذلك أول إنتاج علمي يتم فيه إنتاج هذا الفيتامين بطريقة اصطناعية.

وهكذا، فقد استقر الرأي بعد تلك الفترة ، على اعتماد هذا العلاج الذي أسهم بشكل فعّال في علاج هذا المرض القاتل، الذي أودى بحياة الملايين من البشر، في تلك الفترة، ويعتبر فيتامين C اليوم من الفيتامينات المهمة في تقوية مناعة الجسم، وذلك لمواجهته العديد من الأمراض التي تصيب الإنسان.

* أستاذ التاريخ الحديث

كلية التربية الأساسية

في جامعة الكويت