الملاذ من العاصفة الكاملة في الشرق الأوسط

تعرض علينا الجائحة العالمية الآن الفرصة لتخيل مستقبل مختلف، فعادة تصبح عملية إقامة الشراكات أسهل في بوتقة الأزمات، والآن حان وقت الاجتماع على هدف مشترك والبدء بصياغة أجندة تحظى بالحد الأدنى على الأقل من القبول، مع التركيز على الشواغل الإنسانية الأساسية.

نشر في 29-04-2020
آخر تحديث 29-04-2020 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت تسببت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) في إحداث حالة طوارئ أربكت أنظمة الصحة العامة وأفضت إلى انخفاض أسعار النفط بشكل حاد، وهو ما يمثل عاصفة كاملة للشرق الأوسط، حيث يعتمد كل شيء من الرواتب إلى إعانات الدعم على عائدات النفط. كما كانت الحال في الماضي، ستمتد صدمة أسعار النفط حتما إلى البلدان غير المنتجة للنفط بسبب تضاؤل تحويلات المساعدة الرسمية وانخفاض تحويلات العاملين، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من تآكل الاحتياطي المالي اللازم للتعامل مع أزمة كوفيد-19.

ما يزيد الطين بلة أن الجائحة ضربت المنطقة في وقت حيث كانت تترنح بالفعل تحت وطأة أزمات متعددة، فلا تزال المأساة السورية مستمرة، ولا تزال الحروب الأهلية مستعرة في ليبيا واليمن، وكان "الشارع العربي "يعيد الحشد"، فمن الجزائر إلى السودان إلى العراق ولبنان، يجاهر المحتجون في الوقت ذاته برفض نموذج التنمية الذي لم ينتج سوى الفساد وعدم الاستقرار الاجتماعي.

الواقع أن تصورات جماهير الناس ليست بلا أساس، فرغم أن الشرق الأوسط لا يزال يصنف على أنه منطقة متوسطة الدخل، فقد شَـهِـد ارتفاعا مقلقا في معدلات الفقر والتفاوت في الدخل. يُـظـهِر تقرير حديث صادر عن البنك الدولي أن الحصة من سكان المنطقة الذين يعيشون على مقربة من صراعات عنيفة ارتفعت من 6% إلى 20% خلال الفترة من 2007 إلى 2017، وهذا يتجاوز كثيرا المتوسط العالمي البالغ 3%. وتمثل المنطقة الآن 40% من النازحين على مستوى العالم، وفي ظل أعلى معدل للبطالة بين الشباب في العالم، أصبح من الصعب على نحو متزايد بالفعل الحفاظ على القطاعات العامة المتضخمة. الآن، لا أحد يستطيع أن يجزم ما إذا كان العراق قادرا حتى على دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية الشهر القادم وهذه ليست الحال في العراق وحده.

الآن بعد أن ألمت بنا جائحة (كوفيد-19)، يواجه الشرق الأوسط تحديا غير عادي يتطلب استجابة استثنائية. على الرغم من الجوقة المتنامية من الأصوات التي تدعو إلى بذل جهود عالمية في التعامل مع الجائحة، فإن أول ما يحتاج إليه الشرق الأوسط هو استراتيجية إقليمية محددة الأهداف. ينبغي لنا أن ننظر إلى الأزمة باعتبارها فرصة لبناء نظام سياسي جديد للمنطقة، والآن حان الوقت لأن يعمل العالم العربي نحو إيجاد حلول مشتركة، وتبني مصير مشترك، وإطلاق نموذج جديد للتنمية لمعالجة التحديات الاقتصادية الاجتماعية المتزايدة الترابط.

لقد وصل النظام الإقليمي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نقطة الانهيار بالفعل بحلول نهاية عام 2019، ولم تعد الولايات المتحدة الـحَـكَم الوحيد في شؤون الشرق الأوسط، نظرا لتراجع اعتمادها على الواردات النفطية وإنهاكها المتزايد بِـفِـعل ارتباطاتها العسكرية الخارجية. وفي حين أظهرت روسيا، والاتحاد الأوروبي، والقوى الإقليمية استعدادا متزايدا للتدخل في المنطقة، فإن أيا من هذه القوى لا تملك الموارد اللازمة للاضطلاع بالدور الذي كانت أميركا تؤديه، أو ليس لديها حتى الرغبة في ذلك.

نتيجة لهذا، لم تعد الدول العربية قادرة على الاعتماد كليا على القوى العالمية لمساعدتها في التصدي للتحديات الوجودية التي تواجهها، وفي حين تجري بعض بلدان الشرق الأوسط محادثات مع صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات مالية طارئة، فإن أغلب الحكومات تفتقر إلى الـسِـعـة السياسية اللازمة لتمكينها من الالتزام بشروط صندوق النقد الدولي، وحتى إذا خفف الصندوق من شرطه المعتاد المتمثل في الانضباط المالي الصارم، فإن مساعداته لن تفيد إلا في تمويل الحماية الاجتماعية في الأمد القريب. وبعد انقضاء الآثار المباشرة للأزمة الحالية، ستقع على عاتق صناع السياسات في المنطقة مهمة ابتكار نموذج أكثر استدامة للتنمية.

لا قِـبَل لأي حكومة بالاضطلاع بهذه المهمة منفردة، حتى إن كانت تحظى بالدعم من قِـبَل مانحين دوليين، ولأن المشاكل الاقتصادية في المنطقة شديدة الترابط، فلن يتسنى علاجها إلا من خلال نهج متكامل.

تُـعَـد الصحة العامة الآن من بين القضايا الأكثر إلحاحا، وستظل على رأس الأجندة، لكن الشرق الأوسط يحتاج أيضا إلى توسيع توافر المياه، والغاز، والنفط، والنقل، فضلا عن تعزيز سبل الحماية البيئية. كل هذه القضايا تنطوي على ديناميكيات عابرة للحدود، وهي بالتالي تتطلب التنسيق الإقليمي، وعلى نحو مماثل، يتطلب إحياء النمو الاقتصادي أن تعمل بلدان الشرق الأوسط على تعزيز التكامل الإقليمي في مجالات مثل السياحة، والتجارة، والخدمات، وغير ذلك من القطاعات الرئيسة الكبرى.

لن يتسنى تحقيق استراتيجية النمو الشاملة هذه من خلال الأطر التعاونية القائمة، لقد بات النموذج التقليدي القائم على الجهوية الإقليمية العربية في عِداد الـموتى، ويُـنـظَـر إلى القمم العادية التي تعقدها جامعة الدول العربية على نحو متزايد على أنها تجمعات عديمة الجدوى، "كثير الكلام قليل الـفِـعل"، كما أصبحت الهياكل الإقليمية الفرعية، مثل مجلس التعاون الخليجي، غير ذات نفع بذات القدر، نظرا للشقاق الداخلي بين البلدان الأعضاء، وفي حين أن مثل هذه الانقسامات ستفرض حتما صعوبات في محاولة إنشاء إطار جديد متعدد الأطراف للتعاون، فإن السؤال الذي يجب علينا أن نطرحه الآن هو ما إذا كان هناك أي أمل للشرق الأوسط في غياب مثل هذا الإطار.

في ظل الظروف الراهنة، تخوض الدول العربية المتناحرة حرب استنزاف لن تسفر عن أي انتصارات فردية، بل لن تفضي إلا إلى خسائر جماعية، فلم يسبق من قَـبل قَط أن تجلت الحاجة إلى الجهود الجماعية بهذا القدر من الوضوح الذي نشهده الآن، وفي حين تكشف الجائحة عن خطوط الصدع في المنطقة، يتعين على القادة العرب أن يدركوا أن الخواء الاستراتيجي لا يظل شاغرا أبدا، وفي غياب العمل المنسق، لن يتردد أولئك الذين يسعون إلى تحقيق مصالحهم الذاتية من جانب واحد في اغتنام الفرصة، فيعملون على ضمان المزيد من الصراع وعدم الاستقرار، وفي حين يناضل العالم محاولا تسطيح منحنى العدوى، يتعين على البلدان العربية أن تضطلع بالمهمة الإضافية المتمثلة في تسطيح منحنى الصراع، وإذا فشلت في إتمام هذه المهمة، فلن يشهد مستقبل المنطقة لا الصحة ولا الثروة.

لإنهاء الصراع ورسم نهج جديد موحد للمنطقة، يتعين على القادة العرب أن يهجروا الافتراضات القديمة وأن يواجهوا الحقائق الجديدة بجرأة. الآن، تعرض علينا الجائحة العالمية الفرصة لتخيل مستقبل مختلف، فعادة تصبح عملية إقامة الشراكات أسهل في بوتقة الأزمات، والآن حان وقت الاجتماع على هدف مشترك والبدء بصياغة أجندة تحظى بالحد الأدنى على الأقل من القبول، مع التركيز على الشواغل الإنسانية الأساسية: وقف الأعمال العدائية، ودعم اللاجئين، وإعادة البناء بعد الصراع، وتمكين الشركات المتضررة نتيجة لأحدث موجة من الاضطراب والانقطاع من الوصول إلى السوق.

لفترة طويلة بعد انقضاء أزمة "كوفيد-19"، سيكون العالم مشغولا بهموم أخرى، ولن يساعد العرب أنفسهم إلا من خلال مساعدة بعضهم بعضا، وينبغي لقادتهم أن يتحركوا الآن.

* باسم عوض الله الرئيس التنفيذي لشركة طموح الاستشارية، وشغل سابقا منصب وزير التخطيط والمالية في المملكة الأردنية الهاشمية، وعديل مالك أستاذ اقتصادات التنمية المشارك في جامعة أكسفورد.

*عديل مالِك

ما يزيد الطين بلة أن الجائحة ضربت المنطقة في وقت كانت تترنح بالفعل تحت وطأة أزمات متعددة

في ظل أعلى معدل للبطالة بين الشباب في العالم أصبح من الصعب الحفاظ على القطاعات العامة المتضخمة
back to top