تتغير حياة نزار قباني بعد كل صدمة يتعرض لها، والتي كان آخرها وأشدها وفاة الحبيبة والزوجة بلقيس، التي تركت بالغ الأثر في قلب نزار المرهف والحساس، ولم يتوقف القباني عن كتابة الشعر بعد قصيدته المشهورة بلقيس، بل استمر شاعرنا في رثائها في العام الثاني على رحيلها، بعد أن هوجم كالعادة لتوجيهه الانتقادات الحادة في قصيدة بلقيس للإرهاب والأوضاع المرتبكة والمضطربة في العالم العربي، خصوصا الحرب الأهلية اللبنانية، حيث يعيش وحيث قتلت زوجته. وفي عام 1982 في العاشر من الشهر الرابع عاد نزار مجددا لينتقد الجاهلية التي تسيطر على عصر يفترس القصائد ويبكي الأنوثة التي لا تشفع في هذا الوطن الممتد جغرافيا من البشاعة الى البشاعة، ومن القذيفة الى القذيفة، كما يقول في قصيدة "25 وردة في شعر بلقيس"، ويقول فيها أيضاً:
كنت أعرف أنها سوف تقتل..وكانت تعرف أنني سوف أقتل..وقد تحققت النبوءتان..
سقطت هي، كفراشة، تحت أنقاض الجاهلية وسقطت أنا... بين أنياب عصر عربي يفترس القصائد..وعيون النساء..ووردة الحرية..كنت أعرف أنها سوف تقتل..ففيها تجسدت حضارة ما بين النهرين ونحن متخلفون..هي مقام بغدادي رائع..ونحن لا نسمع..هي قصيدة عباسية..ونحن لا نقرأ..هي فصل من ملحمة جلجامش ونحن أميون هي أجمل ما كتب من شعر..ونحن أردأ ما كتب من نثر..
تكاثر المآسي
مأساة نزار في تلك الفترة لم تكن هي فقط وفاة بلقيس، بل كانت لاحقة لرحيل شخصين آخرين عزيزين على قلبه، وكانت بلقيس هي من خففت عليه وقتها أثر رحيلهما المفجع. المأساة الأولى كانت وفاة ابنه توفيق في العاشر من شهر أغسطس عام 1973، توفيق ذاك الحلم الذي نبت بين أجفان أبيه والسهم الذي أتعب قلبه. توفيق كان طالبا في السنة الخامسة بكلية الطب بجامعة القاهرة، اغتاله الموت وهو في ريعان شبابه، ولم يكن يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر حيث امتدت يد القدر لأغلى ما يملك نزار، ولأجمل حلم عنده (نقلا عن مقال للكاتب الأستاذ شمس الدين العجلاني في مقال لصحيفة القدس العربية). أما القصيدة التي كتبها في رثاء ابنه الراحل توفيق فحملت عنوان "إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني". يقول فيها: مكسوة كجفون أبيك هي الكلمات..ومقصوصة كجناح أبيك هي المفردات فكيف يغني المغني؟وقد ملأ الدمع كل الدواة..وماذا سأكتب يا بني؟وموتك ألغى جميع اللغات....سأخبركم عن أميري الجميل..سأخبركم عن بنفسج عينيه..هل تعرفون زجاج الكنائس؟ هل تعرفون دموع الثريات حين تسيل..وحزن المراكب قبل الرحيل؟ ...لو كان للموت طفل لأدرك ما هو موت البنين ولو كان للموت عقل سألناه كيف يفسر موت البلابل والياسمين ولو كان للموت قلب تردد في ذبح أولادنا الطيبين أتوفيق.. يا ملكيّ الملامح.. يا قمريّ الجبين فهل ستفكر فينا قليلا؟ وترجع في آخر الصيف حتى نراك..أتوفيق إني جبان أمام رثائك.. فارحم أباك..بعد وفاة توفيق بثلاثة أعوام، توفيت فايزة آق بيق، والدة نزار، عام 1976، فكانت المأساة الثانية، وكتب لها قصيدة "خمس رسائل إلى أمي" عام 1978، أي بعد عامين من وفاتها، ومما كتبه عن والدته في مذكراته: كبرت، وظللت في عينيها دائما طفلها الضعيف القاصر. وسافرت بعد ذلك إلى جميع قارات الدنيا، وظلت مشغولة البال على طعامي وشرابي ونظافة سريري. وتتساءل كلما جلست الأسرة على مائدة الطعام في دمشق: "ترى هل يجد الولد في بلاد الغربة من يطعمه؟"... والولد هو أنا بالطبع.«قصائد متوحشة»
نزار لم يتوقف عن إصدار مجموعاته الشعرية في تلك الفترة (فترة السبعينيات)، واستمر عطاؤه الشعري متدفقا كالينبوع من حنايا قلبه ومشاعره، وكان إنتاجه الشعري كبيرا يروي تعطش محبيه جميعا لكلماته، حيث بدأ عام 1970 بديوان "قصائد متوحشة". ويتحدث نزار في مذكراته عن هذا الديوان قائلا: إن كل إبداع مغامرة، والشاعر الذي لا يدخل كل يوم في مغامرة جديدة مع اللغة التي يكتب بها، يسجن نفسه في دائرة من الطبشور تضيق عليه يوماً بعد يوم حتى تقتله. حين كنت أهيئ مجموعة "قصائد متوحشة"، وأراجع مسوداتها قبل أن أدفعها للطبع، تملكتني الدهشة والقشعريرة، وأنا أقرأ هذا الكلام في قصيدتي "إلى صامتة": تكلمي حبيبتي عما فعلتِ اليوم أي كتاب -مثلاً- قرأتِ قبل النوم؟ أين قضيتِ عطلة الأسبوع؟وما الذي شاهدتِ من أفلام؟ بأي شط كنت تسبحين؟ هل صرت لون التبغ والورد ككل عام؟تحدثي... تحدثي من الذي دعاك هذا السبت للعشاء؟بأي ثوب كنت ترقصين؟وأي عقد كنت تلبسين؟فكل أنبائك يا أميرتيعادية.. تبدو لك الأشياء.. سطحية..لكن ما يهمني.. أنت مع الأشياء.. وأنت في الأشياء وقفت طويلا أمام هذا الكلام، وتساءلت إذا كان الناس سيغفرون لي هذا العدوان المقصود على تاريخ البلاغة العربية، بكل ما تمثله من استعلاء وغرور وعصمة، بل هذا العدوان على تاريخي الشعري كله. وقادتني تساؤلاتي إلى تساؤلات أخرى: لماذا تكون البساطة عدوانا على التاريخ؟ بل لماذا تكون طفولة القصيدة سببا من أسباب إدانتها؟ هل تتعارض الطفولة مع البلاغة؟ وهل التعتيم هو الشرط الأساسي لتأكيد ثقافة الشاعر، وغنى عوالمه الجوانية؟ وبكلمة أخرى: هل غموض الرؤية، وغموض الوسيلة، وغموض طريقة العرض، هي معيار أهمية الشعر وأهمية الشاعر؟ إن "إزرا باوند" وهو أبو مدرسة الشعر الحر وبطريركها، كان ينادي بعودة الشعر إلى معالجة الأشياء المباشرة، ورفض استخدام أي كلمة لا تضيف شيئا إلى بناء القصيدة. وكان يقول دائما: "إننا نتألم من استخدام اللغة بغية إخفاء الفكر". وكان علم البيان هو الشيء الوحيد الذي تمنى إزرا باوند لو أنه قادر أن يطلق عليه النار. تضم مجموعة "قصائد متوحشة" ثمانياً وعشرين قصيدة (اختاري- قارئة الفنجان- القصيدة المتوحشة- أنا قطار الأحزان- الخرافة- إلى نهدين مغرورين- خارج صدري- قطتي الشامية- أحبك جدا- رسالة من تحت الماء- هاملت شاعرا- يوميات رجل مهزوم- بالأحمر فقط- إلى صامتة- مع بيروتية- رفقا بأعصابي- أين أذهب؟- أقدم اعتذاري- يا زوجة الخليفة- قصيدة الحزن- تذكرة سفر لامرأة أحبها- أسألك الرحيل- إلى رجل- تلومني الدنيا- بانتظار سيدتي- قصيدة واقعية- لحمها وأظافري- حارقة روما).نجاة ونزار
من يتابع عناوين وأسماء القصائد في هذه المجموعة يعرف تماما أن هناك الكثير منها أصبحت أغاني لأشهر الفنانين العرب قديما وحديثا، ومن أشهر الفنانين العرب كانت نجاة الصغيرة التي حصلت على حصة كبيرة من قصائد نزار قباني، فقد كانت علاقة الشاعر بالمطربة نجاة علاقة قوية أثمرت عن أغاني "أيظن" من مجموعة قصائد حبيبتي، و"ماذا أقول له" من ديوان الرسم بالكلمات، و"أسألك الرحيل" و"متى ستعرف كم أهواك"، وهما من مجموعة قصائد متوحشة. وقد قال قباني عن نجاة إنها الأفضل تعبيرا عن قصائده. كما لقبت الفنانة نجاة "سيدة القصائد العربية"، بعد تعاونها مع مجموعة من الشعراء، وعلى رأسهم الشاعر نزار قباني.ونجاة هي ابنة محمد كمال حسني، من أصل سوري ومصرية الجنسية، ومن أشهر مطربات فترة الخمسينيات والستينيات.وبالخوض في التجربة الأولى التي جمعتهما تتحدث الفنانة نجاة الصغيرة فتقول: تلقيت رسالة من الشاعر الكبير نزار قباني، وكنت بعمر الـ 22 عاما، وهي قصيدة "أيظن"، حيث وجدت في ظرف الرسالة ورقة جميلة مكتوباً عليها قصيدة شعرية باللغة العربية الفصحى مطلعها "أيظن" وأحسست بعد قراءة هذا الشعر أن هناك كنزا بين كلمات هذه القصيدة، ولكن العثور عليه كان يتطلب صعوبة كبيرة، ولكني حقيقة لم أتلق القصيدة بارتياح كبير، لأن مفرداتها صعبة، ولم يسبق لي أن غنيت بتلك اللغة، فقدمتها للموسيقار كمال الطويل أسأله عنها وعن إمكانية تلحينها، فأجاب مستغربا: إيه ده؟ وكذلك الملحن محمد الموجي، وقررت أن أرسل القصيدة للنشر في إحدى الصحف المصرية، تكريما لصاحبها الذي أرسلها لي وخصني بها. وأضافت نجاة: بعد نشرها فوجئت بالفنان محمد عبدالوهاب يتصل بي ويقرأ لي القصيدة من الصحيفة، ويسألني هل هذه القصيدة لك؟ فقلت له نعم، وكان يريد الاستفسار إذا كانت القصيدة قد مرت علي وقرأتها، ورويت له ما جرى، فطلب مني أن أراه كي أستمع إلى لحن الأغنية. كانت حينها الساعة الحادية عشرة صباحا، وأكد علي أن ألتقيه بعد ساعتين، وبالفعل حينما ذهبت إليه كان اللحن جاهزا، ثم خرجت الأغنية للعلن لتحقق نجاحا كبيرا. وعند انتشار الأغنية لم يكن الشاعر نزار قباني موجودا في مصر أو سورية، كان في عمله الدبلوماسي في الصين وقتها، وانتابه شعور الغضب أن تخرج أولى قصائده المغناة للنور دون أن يسمعها أو يكون قريبا... فبعث لي برسالة عتب لعدم حصوله على نسخة منها. وجاء في الرسالة: أيتها الصديقة الغالية... لا أزال في آخر الدنيا... أنتظر الشريط الذي يحمل أغنيتنا "أيظن"... تعيش في الصحف... في السهرات وعلى شفاه الأدباء... وفي كل زاوية من الأرض العربية... وأبقى أنا محروما من الأحرف التي أكلت أعصابي... يا لك من أم قاسية يا نجاة! أريت المولود الجميل لكل إنسان وتغنيت بجماله في كل مكان... وتركت أباه يشرب الشاي في بكين... ويحلم بطفل أزرق العينين يعيش مع أمه في القاهرة... لا تضحكي يا نجاة اذا طلبت ممارسة أبوتي، فأنا لا يمكن أن أقنع بتلقي رسائل التهنئة بالمولود دون أن أراه، فانهضي حالا لدى وصول رسالتي، وضعي المولود في طرد بريد صغير... وابعثي به إلى عنواني... إذا فعلت هذا كنت أما عن حق وحقيقة، أما إذا تمردت فسأطلبك إلى بيت الطاعة، رغم معرفتي بأنك تكرهينه.ووصل الرد على رسالة نزار من نجاة بطرد يحمل الأغنية، التي أسرع بها إلى مسجل السفارة، لكنه لم يعمل بسبب مشاكل تقنية، فبعث إلى الإذاعة الصينية يستشيرهم في حل، فمكنوه من سماعها على أحد أجهزة استديوهاتهم. ومن ثم جرى تعاون آخر بينهما في القصائد الثلاث الأخرى. وتقول القصيدة:أيظن أني لعبة بيديه؟أنا لا أفكر في الرجوع إليه اليوم عاد كأن شيئا لم يكن وبراءة الأطفال في عينيه ليقول لي: إني رفيقة دربهوبأنني الحب الوحيد لديهحمل الزهور إلي... كيف أردهوصباي مرسوم على شفتيهما عدت أذكر: والحرائق في دمي كيف التجأت أنا إلى زنديهخبأت رأسي عنده... وكأنني طفل أعادوه إلى أبويهونتابع في اللقاء القادم أجواء التعاون بين نزار ونجاة في الأغاني اللاحقة، وكيف كان التعاون مع الفنان الكبير عبدالحليم حافظ، خصوصا قارئة الفنجان، التي بذل الطرفان جهداً كبيراً لإخراجها إلى النور، إضافة إلى أنها كانت آخر ما غناه العندليب الأسمر.موت توفيق ذروة الخط التراجيدي
تقول هدباء ابنة نزار عن حادثة موت أخيها توفيق: كانت علاقة نزار بتوفيق خاصة جدا، ووفاته كانت من أكبر الضربات التي أثرت عليه، إن لم تكن أكبرها. من ينظر لتوفيق يرَ هذه المعجزة الغريبة للطبيعة الإنسانية، فهو يبدو نسخة عن أبيه، نظراته الحالمة كأنها نظرات نزار في شبابه. وفاة توفيق هي نقطة الذروة في الخط التراجيدي الذي سيُخضع الشاعر للتجربة الهائلة للقدر، يجعله يشعر، حتى وفاته، بالمعنى الكبير للفقد والخسارة. موت توفيق كسر ظهره وكسر أمي وكسرني. كنا في لندن للعلاج، وتوفي توفيق خلال الرحلة، واضطر أبي أن يلم أغراضه، ورجع مثله بالطائرة إلى دمشق، وعندما توفي أبي دفن الى جانبه. نزار لم يكن دراميا (تقول هدباء) لم يكن استعراضيا بمشاعره، يمكنك أن تجد تأثيرات وفاة أخي في قصيدته التي قالها فيه، والتي أعتبرها من أعظم أشعاره، قلت له: كيف استطعت أن تمشي وراءه في الجنازة؟ قال: كنت أمشي معه كتفي بكتفه. ولم أفهمه وقتها، ولكنني فهمت عندما توفي، فقد أحسست أنني أمشي معه، وكنت أقول في نفسي: الآن تنتهي هذه الزحمة ونعود إلى البيت. بعد عودته من جنازة توفيق لم يعد يتكلم عنه.