اقتصاد الإنسان أم اقتصاد السوق؟
شاركت مع عدد كبير من خبراء الصحة في العالم في ثلاث ندوات عقدت، عبر وسائل الاتصال الاجتماعي بالطبع، في نقاش الدروس المستخلصة من كارثة وباء كورونا، وكان هناك اتفاق على خمس نقاط رئيسة:أولا، أن العالم يدفع ثمن تقصيره في الاستثمار في الصحة، وثمن قلة الموازنات المخصصة لها، والتي جعلته عاجزا عن حماية حياة مئات الآلاف في مواجهة وباء كورونا. ثانيا، أن حجم ما يصرف على الصحة ليس معيارا كافيا، بل لا بد من الإجابة عن سؤال، كم من الأموال تذهب لمصلحة صحة الإنسان، وكم يذهب كأرباح لجيوب شركات التأمين الصحي والأدوية؟
ثالثا، أن العالم يدفع أيضا من أرواح أبنائه ومن خسائر اقتصاده ثمن ضعف الاستثمار في التعليم والبحث العلمي، ولو كان جزء بسيط من الأموال التي تذهب لتطوير الأسلحة، قد وجه لتطوير تكنولوجيا الأبحاث، لربما كان بمقدورنا تطوير لقاحات وعلاجات ضد فيروس كورونا المستجد، وغيره بوقت أسرع وفاعلية أكبر.رابعا، وهذه هي النقطة الأهم، أن العالم يدفع ثمن هيمنة فكرة "اقتصاد السوق" على اقتصادات كل الدول من شرقها إلى غربها، ومن أكثرها تفاخرا برأسماليتها المتشددة، إلى أكثرها ادعاء باشتراكيتها، وديمقراطيتها الاجتماعية.وكان هناك توافق على أن هيمنة فكرة الربح المالي، على كل القطاعات بما في ذلك التعليم والصحة، أدى إلى تبني مبادئ الخصخصة المفرطة، وتحول التفكير من نوعية التعليم ونوعية الخدمات الصحية، وإبداع البحث العلمي إلى تبني الأنشطة الاستهلاكية التي تدر الأرباح والمال حتى لو كان ذلك على حساب صحة ورفاهية الإنسان.وأدى ذلك إلى توسع مذهل في قطاعات الطب الخاص، والتعليم الخاص، وإلى إغلاق آلاف المستشفيات العامة، وتراجع مصادر تمويل الأبحاث الصحية، وإلى تدهور التعليم الحكومي والرعاية الاجتماعية للفقراء، والمسنين، والمعاقين، والعاطلين عن العمل. وأصبحت حضانات الأطفال، والمدارس كذلك سوقا لتحقيق الأرباح، مع إهمال القطاع العام.واليوم يدفع العالم ثمنا باهظا من الخسائر الاقتصادية قد يصل إلى تسعة تريليونات دولار (التريليون يساوي ألف مليار أو مليون مليون)، في حين أن جزءا يسيرا من ذلك، كان كافيا لدرء هذا الانهيار لو كان هناك عقلانية في الاستثمار.خامساً، الإجماع على أن الاقتصاد الرأسمالي خلق العولمة، وجعل العالم قرية واحدة، ولكن التصدي لوباء كورونا العالمي بقي محصورا في حدود الدولة القومية، وخسر العالم الكثير من الوقت والكثير من البشر، قبل أن يفهم أن إيجاد لقاح مضاد لفيروس كورونا المستجد، ودواء ناجح لا يمكن أن يتم دون جهد عالمي موحد، وهذا ما انتقده الأمين العام للأمم المتحدة غوتيرش في لقائه بوسائل الإعلام معتبرا، أن قادة العالم فشلوا في مواجهة تحدي كورونا بجهد وسياسات موحدة.والاستنتاج الطبيعي أن قضايا عالمية كالهجرة، والأوبئة، والتدهور البيئي، والنيازك التي قد تضرب الأرض لا تعالج إلا بقيادة جماعية عالمية، ومنظومات عالمية موحدة، كمنظمة الصحة العالمية، التي لا يتوقف دونالد ترامب عن مهاجمتها.ما كشفة فيروس كورونا، أن كل ملايين، بل مليارات الدولارات، وكل جيوش العالم وأسلحته، لا تستطيع أن تحمي أحدا من الإصابة، وما من خلاص، إلا بأنظمة اقتصادية وصحية اجتماعية عادلة وعقلانية، تضع مصلحة الإنسان وبقاءه وصحته فوق كل اعتبار للربح المادي.إنه درس للبشرية، وفرصة لإدراك أن ما تحتاجه البشرية هو اقتصاد الإنسان لا اقتصاد السوق. * الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية