تساقطت أحجار هذه الأمة واحدا وراء آخر، وفي كل مرة يربت المتفائلون على أكتاف بعض وينهون الحديث المتشائم ببعض التفاؤل بأنه السقوط الأخير، ولم تعد هناك هاوية أخرى بعد كل ذاك الانحدار، التساقط بدأ كما يبدو على الصعيد السياسي فابتعد المعارضون والمثقفون والثوريون السابقون وحتى بعض القوميين والماركسيين، الخطابات الرنانة ربما خوفا أو ربما كما يقول بعضهم اليوم "ماذا استفدنا من سنوات النفي في بقاع الأرض أو قضاء سنين طويلة في زنازين معتمة أو حتى المطاردة في الرزق؟"، تحول كثيرون منهم ومنهن إلى الثقافة والفن والموسيقى والمسرح والسينما حتى استطاع بعضهم أو "يغمز" من بعيد لبعض ما أصاب الكيانات العربية وأنظمتها السياسية من نخر بدأ بالرأس حتى وصل إلى القاع كالسيل، إذ يجرف كل ما في طريقه، بعضهم توفق بعض الشيء وآخرون سقطوا في بحيرة العفن دون أن يدركوا ذلك، فقد اكتظت هي بالجماهير القفيرة من محيطها حتى خليجها.بعضهم أطلق على النقاد لفظ المتشائمين بل المغرضين، فهذه الدول والمجتمعات ماضية في الصعود السريع! وحين هلّ هلاله وفي أيامه الأولى لم يستطع الكثيرون إلا أن يرددوا "ما كل هذا العفن؟"، واجتمع العرب للمرة الأولى منذ عقود، فلم تجمعهم القضايا المصيرية كما جمعتهم المسلسلات الساقطة في وحل تلك البحيرة نفسها. ركاكة في النص والحوار والتمثيل والحبكة وأخطاء في التاريخ وأخرى حتى في الديكور حيث لا علاقة للمرحلة التاريخية بما هو على الشاشة، أما برامج المسابقات فحدث ولا حرج من الكوميدية السمجة والرخيصة إلى إغراءات المشاهد الصائم "الغلبان" والمحبوس منذ شهرين، والباحث عن أي شيء يسلي الحظر الذي داهمه فجأة، بعض تلك الإغراءات مادية، فالمال هو أساسها الأول وأخرى حسية، فتيات بكثير من المساحيق والحركات المبتذلة وغيرها كثير.
ما كل هذا الاستخفاف بعقلية المشاهد العربي؟ ما كل هذا الكم من الملل المغلف بالعربات الفاخرة والملابس والإكسسوارات وهي ليست في مجملها جميلة، بل في كثير من الأحيان ما هي سوى كمية من الابتذال، أما تبرئة الصهاينة من أكبر جريمة اغتصاب في العصر الحديث فكان الشغل الشاغل لكثير من المحطات التي ما هي إلا صوت لصانعي القرار. الغريب حقا هو إذا كانوا جميعا مقتنعين بمقولة إن "العرب قد وقفوا مع القضية الفلسطينية" فكيف رد لهم الجميل من قبل الفلسطيينين بكثير من "الجحود"؟ عذر أقبح من ذنب حقا وتسطيح لقضية تمثل أبشع أشكال العنصرية. ماذا يريد الكثيرون منهم؟ تبرير قرارات حكوماتهم؟ ولم تريد تلك ذريعة للزحف "المقدس" إلى تل أبيب وهو الذي بدأ منذ سنين أحيانا تحت رادارات "الرعايا" في تلك الدول التي سقطت عتبة عتبة ثم "زحطت" سريعا؟ ليتهم وفروا عناء المشاهدة على الصائمين وغيرهم من المحتفين برمضان كجزء من ثقافة وتراث ، ليتهم وفروا عليهم كل هذا الانحطاط والنصوص الركيكة حتى تخال أنها كتبت مجتمعة شارك فيها ما يسمون بكتاب السيناريو في سهرة حتى مطلع الفجر، وركضوا إلى مخرجين أكثر جهلا في فن الإخراج ومهندسي ديكور ثم منتهين بممثلين، حتى المتمكنين منهم ومنهن أولئك الذين لديهم تاريخ طويل في مجال التمثيل التلفزيوني والمسرحي، حتى هم أصابتهم عدوى الهواة المعتمدين أحيانا على الجمال الخارجي والمظهر وكثيرا على السخرية التي لا يمكن أن توصف إلا بثقالة الدم والتفاهة، لم يستطع هؤلاء جميعا أن يحبكوا حتى قصة حب كما كان الأقدمون، لم يعرفوا كيف يوصلون اللحظة بالأخرى وتصوروا أن بعض الأسماء المخضرمة كافية لكسب المشاهد حتى لو كانت تلك لشخصيات "محنطة" لم تكن قاردة أحيانا حتى على الوقوف، وهذا ليس عيبا، فالتقدم في السن سنّة الحياة، ولكن أن يصر بعضهم على التمثيل حتى آخر نفس لهم فهذا هو السقوط أيضا والنهاية الفاشلة لتاريخ من النجاحات. إلى أين يهرب المشاهد العربي الذي تعود على أطباق معينة على المائدة تكملها مسلسلات لم تكن جميعها، وعلى مر السنوات الأخيرة موفقة دائما، إلا أنها لم تستقطع جمعاء كما هو حالها في هذا الرمضان الكئيب، ربما لإحساسهم أن المواطن العربي تعود على قبول أي شيء وكل شيء، وتعلم الصمت من صغره، وعندما عرف أن له صوتا فرفعه في وجه أولئك، جاءته المدرعات والمؤامرات والسجون والمنافي والانهيار الاقتصادي فعاد إلى عادته القديمة كما حليمة! في رمضان هذا بدا واضحا كم أن المواطن العربي لا قيمة له، والاستهزاء بقدراته العقلية قد وصل إلى حد الاستهزاء به! نداء إلى القائمين والعاملين والمروجين لهذه الأعمال، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، وكفى استخفافا بالمشاهد وترديد مثل تلك العبارات التي انتشرت في زمن ما عرف بـ"الانفتاح" أي الجمهور عايز كده! * ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية
مقالات
كل هذا الانحطاط *
04-05-2020