كان أول تعاون بين شاعرنا الكبير والسيدة أم كلثوم في أغنية "أصبح عندي الآن بندقية"، التي قدمت عام 1969 ومن ألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب، وفي عام 1970 حصل التعاون الثاني في أغنية "عندي خطاب عاجل إليك" (رسالة إلى الزعيم) التي رثت فيها كوكب الشرق الزعيم جمال عبدالناصر، ولحّن الاغنية الملحن الكبير رياض السنباطي.وعن الجدل الذي حصل حول أغنية "رسالة إلى الزعيم" تروي عدة وسائل إعلامية عن تسجيل صوتي للإعلامي الراحل وجدي الحكيم يتناول فيه قصة أم كلثوم والأغنية كشاهد على ما حصل، يقول: عندما توفي الرئيس المصري جمال عبدالناصر كتب نزار قباني قصيدته الرثائية التي تقول:
والدنا جمال عبدالناصر عندي خطاب عاجل إليك من أرض مصر الطيبة
من ليلها المشغول بالفيروز والجواهرومن مقاهي سيدي الحسين من حدائق القناطر ومن ترع النيل التي تركتها...حزينة الضفائرعندي خطاب عاجل إليك من الملايين التي قد أدمنت هواك من الملايين التي تريد أن تراك عندي خطاب كله أشجانلكنني يا سيدي... لا أعرف العنوان
احتراماً للسادات
يروي الحكيم أنه شاهد على إعجاب أم كلثوم بالقصيدة، وأنها طلبت منه أن يرسلها إلى الموسيقار رياض السنباطي كي يلحنها. وفعلا بدأ السنباطي بالتلحين، وتم تسجيل الاغنية على شكل مقاطع، ثم تم تجميعها على طريقة تركّات. وعندما أرسلت الأغنية إلى الإذاعة ليتم بثها طلبت أم كلثوم إيقاف البث، لأن الرئيس الجديد أنور السادات سيظهر في اليوم التالي ليتحدث للشعب، ومن غير المناسب كما رأت أم كلثوم أن تبث الأغنية، مصرة على ذلك، كما اتصلت بإدارة الإذاعة لتطلب منها ذلك مؤكدة عدم بث الأغنية، مما دفعها للتراجع رغم تسجيلها بمكتب الإذاعة. ويؤكد الحكيم أن سبب تراجع كوكب الشرق عن بثها يعود لحزنها الشديد على رحيل جمال عبدالناصر. سجلت أم كلثوم الأغنية في ليلة كاملة من الثانية عشرة صباحا وحتى الساعة الثامنة صباحا بسبب حزنها الشديد، وكانت تبكي مع كل جملة تقوم بتسجيلها. ومما تحدث الحكيم به لصحيفة "المساء" أنه فوجئ بعد ساعات متواصلة من تسجيلها بطلب أم كلثوم إيقاف بثها، مؤكدة أن حب عبدالناصر سيبقى في القلب، وأنه لا يجب التشويش على الرئيس الجديد أنور السادات الذي تولى أمور البلاد، بعد ساعات قليلة من تسجيلها. ويضيف الحكيم أن من بين أكثر من ألف أغنية غنتها أم كلثوم قامت بمنع هذه الأغنية فقط بعد تسجيلها، مما أثار غضب السنباطي، متخذا موقفا منها بعد المجهود الكبير الذي قدمه مع فريق العمل لأجلها.تجربة محدودة
وفي كتاب "آخر كلمات نزار" للكاتب عرفان نظام الدين يتحدث القباني أيضاً عن تجربته مع أم كلثوم، ويقول: تجربتي مع أم كلثوم كانت محدودة، وقد اعتذرت عن أغنية "اغضب كما تشاء"، وقالت لي بأسلوبها الساخر: "إنّ أم كلثوم لا يمكن أن تقول للرجل هذا الكلام ثم تسامحه، أنا كنت أورّي له نجوم الظهر لو خانني أو لعب بديله"، لتغنيها لاحقاً، وبعد سنوات طويلة، الفنانة السورية أصالة نصري، من ألحان حلمي بكر الملحن المصري. كما غنت له الفنانة السورية "القصيدة الدمشقية"، التي كانت أغنية شارة المسلسل السوري الذي يتحدث عن حياة نزار قباني، ولحن الأغنية الملحن السوري رضوان نصري، كما غنت أصالة من كلمات نزار قصيدة "من أين يأتي الفرح".ويقول نزار في تعاونه مع أم كلثوم أيضاً: إن كوكب الشرق أخذت القصيدة "رسالة إلى الرئيس"، التي كتبتها تأثرا بوفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وغنتها وسجلتها، وأوقفت إذاعتها وتوزيعها لأسباب ما زلت أجهلها.الصوت الملائكي
كانت مسيرة الشاعر الكبير زاخرة بالتعاون مع عمالقة الفن العربي الأصيل، وكانت إحدى ثماره الناضجة تعاونه مع الصوت الملائكي فيروز (نهاد حداد)، التي قال عنها نزار قباني: إن صوت فيروز هو أجمل ما سمعت في حياتي، إنه نسيج وحدة الشرق والغرب. وفي عام 1997 في لقاء خاص مع نزار قباني أجراه الصحافي نوري الجراح قبل وفاة نزار بعام واحد، وكان أحد المحاور عن القصائد المغناة وعن التعاون مع كبار الفنانين والموسيقيين العرب، وبدأ الجراح السؤال: عشرون عاما مرت على غياب عبدالحليم حافظ، وصوته باق في المقدمة، ومن أجمل أغانيه قصائدك التي غناها. هل قامت بينكما علاقة صداقة؟ نزار: عبدالحليم حافظ يختصر تاريخ الغناء والمغنيين منذ إسحق الموصلي حتى اليوم، ولو أن الله كتب لهذا المبدع أن يعيش خمسين سنة أخرى، لقلب تاريخ الغناء العربي من أساسه، إنه مغن ثوري وانقلابي ومغامر من طراز نادر، وحين أعطيته قصيدتيّ "رسالة من تحت الماء" و"قارئة الفنجان" التمعت في عينيه آلاف النجوم، وقال: شكرا يا نزار، هذا هو الشعر الذي أريد أن أغنيه.عبدالحليم كان صديقي وأملي فيه إنهاء عصر التلوث السمعي الموسيقي الذي نعيشه، لقد أعطت السيدة أم كلثوم كل ما عندها، وذهبت، وأعطى الموسيقار محمد عبدالوهاب كل ما عنده، وذهب. لكن عبدالحليم كان وردة الحداثة التي جفت، قبل أن تعطي كل عبيرها. وكان قمر الحب الذي غاب قبل أن يملأ سماءنا بأمطار الياسمين. وعن السيدات اللاتي غنين قصائده، قال القباني: لا أحد ينطق قصيدة الشعر مثل أم كلثوم، ولا أحد يستطيع أن يتقمص القصيدة الأنثى مثل نجاة، ولا أحد يستطيع أن يلبس القصيدة ثوبا حضاريا مثل ماجدة الرومي (سنتحدث لاحقا عن القصائد التي غنتها).محاور إغريقي
وبسؤاله عن التجربة التي جمعته بالموسيقار محمد عبدالوهاب، الذي ارتبط بأحمد شوقي ثم بنزار، والذي أعلن أن نزار أدخله عصر الحداثة عن طريق قصيدة "ماذا أقول له؟"- قال نزار: لم يكن عبدالوهاب مغنيا عظيما فحسب، وإنما كان متكلما عظيما ومحاورا كمحاوري الإغريق، لقد عرفته في القاهرة عام 1945 حين كنت دبلوماسيا فيها، ولم أقترب منه شعريا لعلمي أنه لا يزال يدور في فلك أحمد شوقي، وحين لحن قصيدتي الأولى "أيظن" لنجاة الصغيرة، التي ضربت الآفاق في الستينيات؛ شعَر عبدالوهاب أنه بحاجة إلى كلام من نوع جديد وصياغات جديدة وصور جديدة، وعندما كان في طور تلحين قصيدة "ماذا أقول له؟" التي أقول فيها: (هنا جريدته... في الركن مهملة- هنا كتاب معا... كنا قرأناه- على المقاعد بعض من سجائره... وفي الزوايا بقايا من بقاياه) قال له أحد الأصدقاء الذين يترددون عليه: إيه ده يا أستاذ؟ أنت بعد ما غنيت "يا جارة الوادي" و"مجنون ليلى" لأمير الشعراء بتلحن كلام السجائر والجرانيل؟ فتوقف عبدالوهاب عن العزف، وقال لضيفه: "اسمع يا سيدي... أنا ألحن هذه القصيدة لنزار قباني لأنها قصيدة تتحدث عن الحب المعاصر... وكلمة (سجائر) بالذات... والجرائد... هي التي جذبتني. فهل هناك عاشقان في العصر الحديث يلتقيان في كافتيريا ولا يكون بينهما جريدة وفناجين قهوة ومنفضة سجائر؟". هكذا كان يفكر محمد عبدالوهاب، وهكذا كان يبحث عن الجديد والمتطور، وقد قال يوما لأحد الصحافيين في لبنان: صحيح أنني ارتبطت طويلا بشعر أحمد شوقي، ولكن نزار أدخلني بشعره عصر الحداثة.«كتاب الحب»
وسنتابع لاحقا موضوع قصائد نزار قباني المغناة، بعد المتابعة في سيرة حياة الشاعر السوري وإنجازاته الشعرية ودواوينه الكثيرة والغنية؛ فبعد أن تحدثنا عن ديوان قصائد متوحشة (1970) نقول إن نزار أصدر في العام نفسه ديواني شعر آخرين، هما "كتاب الحب" و"مئة رسالة حب"، فأما ديوان كتاب الحب فقد ضم ثمانياً وأربعين قصيدة وهي: "ما دمت يا عصفورتي الخضراء- تسألني حبيبتي- الحب يا حبيبتي- حين أن سقطت في الحب- يا رب- عيد ميلادي- المارد- ذات العينين السوداوين- لو كنت يا صديقتي- عدي على أصابع اليدين- بلا كلمات- أنا عنك ما أخبرتهم- أكره أن أحب مثل الناس- شكوى- ذوبت في غرامك الأقلام- عبادة- عشرين ألف امرأة أحببت- إلى القمر- لن تهربي مني- لو كنت تذكرين كل كلمة- لماذا- أحببتني شاعرا- محفورة أنت على وجه يدي- لا تحزني- حين أكون عاشقا- عندما تبكين- عمر وجهي- أخطأت يا صديقتي بفهمي- ما قالوه عني- يحدث أحياناً- الليلة الماطرة- كتبت فوق الريح- ما زلت يا مسافرة- كرمال هذا الوجه والعينين- أهطل في عينيك كالسحابة- أروع ما في حبنا- لا تقلقي- كي تصيري جميلة- كلما سافرت في عينيك- كم تشبهين السمكة- إني رسول الحب- أجمل ما فيك- تعري- نهداك- أحلى الشفاه- كم تغيرت- كلما انفصلت- عبثا ما أكتب سيدتي".ويقول نزار في قصيدة "حين أكون عاشقاً": حين أكون عاشقا أشعر أني ملك الزمان أمتلك الأرض وما عليها وأدخل الشمس على حصاني حين أكون عاشقا أجعل شاه الفرس من رعيتي وأخضع الصين لصولجاني وأنقل البحار من مكانها ولو أردت أوقف الثواني«مئة رسالة حب»
أما ديوانه الآخر "مئة رسالة حب"، الذي يعد من أكبر مجموعاته الشعرية، فقد ضم 100 قصيدة، كما ورد في عنوان الديوان، صغيرة كانت تلك الرسائل (القصائد) أم مقبولة الطول، إلا أنها كانت غنية بمعانيها العميقة كالعادة، وحاز هذا الديوان كغيره انتشارا كبيرا، وهو يضم: "أريد أن أجعلك اللغة- نهار دخلت عليَّ- عندما قلت أحبك- حين وزع الله النساء على الرجال- لم أكن يوما ملكا- لماذا أنت؟- علمت أطفال العالم كيف يهجون اسمك- من أنت؟- إني أحبك ولا ألعب معك لعبة الحب- رماني حبك على أرض الدهشة- أحملك كالوشم على ذراع بدوي- وجهك محفور على ميناء ساعتي- ليس لك زمان حقيقي خارج لهفتي- السنتان اللتان كنت فيهما حبيبتي- كلما طال شعرك- عندما تضعين رأسك على كتفي- كلما رأيتك- رسائلي إليك- يندفع حبي نحوك- عندما تذهبين إلى الجبل- كل رجل سيقبلك بعدي- ابتعدي قليلا عن حدقتي عيني- كان المطر ينزل علينا معاً- أتكوم- آه لو تتحرين يوماً- خطر لي ذات يوم- عندما تزورينني- عيناك- أريد أن أركب معك- شكراً- كلما سافرت- هل فكرت يوماً... إلى أين؟- مزقت يوم عرفتك- أغلقي جميع كتبي- فكرت أمس... بحبي لك- أرجوك أن تحترمي صمتي- عندما ركبت معي- علاقة المفاتيح الذهبية- لماذا تطلبين مني أن أكتب إليك- المتعامل معك- انزعي الخنجر المدفون في خاصرتي- كلما ضرب المطر شبابيكي- الطائرة ترتفع أكثر- قبل أن أدخل مدائن فمك- قضي الأمر وأصبحت حبيبتي- أنت امرأة مستحيلة- يخطر لي أحياناً- لا أستطيع أن أخرج من حدود بشرتي- عندما تكونين برفقتي- أنت لا تستحقين البحر أيتها البيروتية- كان عندي قبلك- مرت شهور وأنا لا أعرف رقم هاتفك- حين رقصت معي- عاد المطر يا حبيبة المطر- يوم تعثرين على رجل- عيون النساء- لا تشتكي من تطرفي- لا أنا أستطيع أن أفعل شيئا- بعد دقائق تضرب الساعة الثانية عشرة- يوم تعرفت عليك منذ عامين"ويقول نزار في قصيدة "عندما قلت أحبك":عندما قلت لك:"أحبك"كنت أعرف..أنني أقود انقلابا على شريعة القبيلةوأقرع أجراس الفضيحةكنت أريد أن أستلم السلطةلأجعل غابات العالم أكثر ورقاً وبحار العالم أكثر زرقةوأطفال العالم أكثر براءةكنت أريد..أن أنهي عصر البربرية وأقتل آخر الخلفاء كنت أعرف...أنني أخترع أبجدية جديدة لمدينة لا تقرأوأنشد أشعاري في قاعة فارغة وأقدم النبيذلمن لا يعرفون نعمة السكر.الشعر ملك الملوك
يقول نزار في كتابه "قصتي مع الشعر": إنني أعتقد أن الشعر وحده هو ملك الملوك، وأن الشاعر العظيم أكبر من كل النياشين التي تعلق على صدره، وأعظم قدراً من كل الألقاب الشاهانية التي تخلع عليه. إنني لا أنكر وفرة ما كتب من شعر الحب، ولا أنكر همومي النسائية، ولكنني لا أريد أن يعتقد الناس أن همومي النسائية هي كل همومي.