توالت فقرات «الساحر» في السينما والدراما التلفزيونية، وبلغ ذروة حضوره في فترة الثمانينيات، وسجل رقماً غير مسبوق خلال عامي 1984 و1985، وقام ببطولة نحو 20 فيلما دفعة واحدة، وبلغت جرأته في التخلي عن وسامته، وتجسيد شخصيات متقدمة في العمر، رغم أنه كان حينها في سن الشباب، ومنها أدواره في «أبناء وقتلة» و»العذراء والشعر الأبيض» و»تزوير في أوراق رسمية»، في وقت كان بعض النجوم الأكبر سناً منه يتشبثون بدور الفتى الأول، ويرفضون الظهور على الشاشة بأعمارهم الحقيقية.

وأهم ما ميز النجم الكبير طوال مشواره الفني قدرته على تجسيد الأدوار الجادة والكوميدية ودراما «الأكشن»، فهو يستطيع لعب أي دور لأنه يجيد رسم الشخصيات، وكان يدوِّن دائماً «ملاحظات» عن طبيعة الشخصية التي يجسدها، يفهمها ويحفظها هو فقط، مما جعله مختلفاً ويلعب أدواره بحنكة من عمل إلى آخر، فمن يراه في شخصية «شيخون» في فيلم «أبناء وقتلة» يجده مختلفاً عن دوره في فيلم «أبو كارتونة»، و»درب الهوى»، و»العذراء والشعر الأبيض» و»رأفت الهجان» وغيرها.

Ad

وتجلت وطنية وانتماء هذا الفنان الاستثنائي في تقديم واحد من الأعمال التي أثرت في الأجيال عبر العصور المختلفة وهو «رأفت الهجان»، وما حمله العمل من معان ودلالات عميقة، وحضور متناغم بين عبدالعزيز ونجوم العمل، ومنهم يوسف شعبان ويسرا ومحمد وفيق وعفاف شعيب وأبوبكر عزت ونبيل الحلفاوي، مروراً بالراحلين المخرج يحيى العلمي، والموسيقار عمار الشريعي الذي وضع الموسيقى التصويرية والكاتب المتميز صالح مرسي.

وتضمنت رحلة الساحر الكثير من المحطات الفنية المهمة، وانضمت الكثير من أفلامه إلى قائمة كلاسيكيات السينما العربية، مثل «العار» و»الكيف» و»البريء» و»أبناء وقتلة» و»الكيت كات»، ومنذ بدايته كشف عن موهبة طاغية، وصعد إلى قمة النجومية بسرعة فائقة، وصار المنتجون يطرقون بابه، ومعهم سيناريوهات متلاحقة، وهذا يفسر سر ظهوره في عشرات الأفلام خلال فترة قياسية، وتنوع أدواره بين الكوميديا والتراجيديا، بينما نجوم آخرون تحققت شهرتهم في مجال واحد، لكنه تمرد على هذا التصنيف، وبات ممثلاً شاملاً يضحك ويبكي في آن واحد.

وفي ذروة النجومية، تعلق الساحر ببوصلة توجهه دوماً نحو الاختيار الصائب لأعماله، سواء في السينما أو المسرح أو الدراما التلفزيونية والإذاعية، مما جعله يدخل قلوب المشاهدين بتلقائية الأداء وعمق فهمه للشخصيات التي يجسدها، فهو الضابط والمحقق والطبيب والموظف البسيط والشيخ الضرير، وغيرها من الأقنعة التي ارتادها في مشواره الفني الحافل بالعطاء والتميز.

وبعد مرور سنوات، قال محمود عبدالعزيز انه يعتز كثيراً بهذه الأفلام التي قام فيها بدور الأب لممثلين يقاربونه في العمر أو أصغر منه بأعوام قليلة، لاسيما دوره في «تزوير في أوراق رسمية» للمخرج يحيى العلمي، وشاركه البطولة النجمة ميرفت أمين وهشام سليم ومشيرة إسماعيل والمطرب إيمان البحر درويش، وحقق الفيلم نجاحاً جماهيرياً لدى عرضه في دور السينما، ولا يزال يحظى بنسبة مشاهدة عالية على «يوتيوب» وفي القنوات الفضائية.

وتدور قصة الفيلم حول معاناة دولت (ميرفت أمين) في حياتها مع زوجها كامل (محمود عبدالعزيز) لعدم قدرتها على الإنجاب، فيتزوج كامل من امرأة أخرى دون علم زوجته الأولى، وتشاء الأقدار أن تحمل دولت، وعندما تذهب لإبلاغ كامل تكتشف زواجه بالأخرى الحبلى هي اﻷخرى، وتضع الاثنتان مولوديهما في يوم واحد، وتتوفى الزوجة الثانية بعد الوضع مباشرة، فيسجل كامل المولودين باسم زوجته الأولى دون علمها، وحتى لا تعلم أيهما ابنها الحقيقي فلا تفرّق بينهما في المعاملة.

كوميديا عائلية

وانتقل الساحر من أجواء التراجيديا إلى كوميديا «الشقة من حق الزوجة» للمخرج عمر عبدالعزيز، وشاركه البطولة معالي زايد وعبدالله فرغلي وجورج سيدهم ونعيمة الصغير، وتدور قصة الفيلم حول سمير الموظف في إحدى المصالح الحكومية، وبعد قصة حب، يتزوج من زميلته «كريمة» (معالي زايد) ابنة رئيسه في العمل «عبدالمقصود» وتبدأ المشاكل المادية بمجرد ولادة الزوجة طفلتها، ويشتري سمير سيارة «تاكسي» بالتقسيط، من أجل تلبية احتياجات أسرته، وتشعر زوجته بالملل بسبب انشغاله عنها، وتشجعها والدتها «نازلي» (نعيمة الصغير) على التمرد وطلب الطلاق، ويتم الطلاق بشكل عفوي، ويبدأ النزاع حول ملكية الشقة.

وتتابعت أعمال الساحر، ويلتقي النجم الكبير فريد شوقي والنجمة نجلاء فتحي في الفيلم المثير للجدل «عفوا أيها القانون» عام 1985، وهو أول تجربة سينمائية للمخرجة إيناس الدغيدي، وسيناريو الكاتب إبراهيم الموجي، ويتناول معاناة الدكتور علي من عقدة نفسية تجعله غير قادر على الاندماج مع الجنس الآخر، وتحاول زوجته «هدى» مساعدته وعرضه على أطباء لمعالجته، وحين يبرأ من تلك العقدة النفسية يخون زوجته، ويصل النزاع بينهما إلى ساحة المحاكم.

وعن تلك التجربة السينمائية تقول المخرجة إيناس الدغيدي: «لم ينتابني الخوف، لأنني أعيش داخل السينما، داخل البلاتوهات، كنت أنتهي من فيلم وأبدأ في فيلم آخر كمساعدة في الإخراج والموضوع كان واضحاً جداً في ذهني، واختياري لفيلم (عفواً أيها القانون) يرجع إلى شعوري بالظلم الواقع على المرأة ليس دفاعاً عن المرأة لكونها من جنسي فإن كان ذلك الظلم واقعاً على الرجل لكنت دافعت عن الرجال، وأثار الفيلم جدلاً شديداً وحظي في الوقت ذاته بثناء النقاد، وبخاصة دور الممثلة نجلاء فتحي، ونالت عنه جائزة دولية بمهرجان طشقند الدولي السينمائي».

صفقات الصعاليك

والتقى محمود عبدالعزيز المخرج داود عبدالسيد للمرة الأولى في فيلم «الصعاليك» عام 1985، وشارك في البطولة النجوم نور الشريف ويسرا ومها أبوعوف، ودارت قصة الفيلم حول صديقين من الصعاليك «مرسي وصلاح» يقيمان في مدينة الإسكندرية، ويتزوج الأول من بائعة تُدعى صفية، ويتجه الصديقان إلى صفقات تهريب المخدرات، وتظهر عليهما علامات الثراء، وتتصاعد الأحداث.

وفي عام 1991، يلتقي عبدالعزيز مع المخرج دواد عبدالسيد في فيلم «الكيت كات» وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً، وشارك في بطولته عايدة رياض وشريف منير ونجاح الموجي والفنانة الكبيرة أمينة رزق، والفيلم مأخوذ عن رواية «مالك الحزين» للأديب إبراهيم أصلان.

وتدور قصة الفيلم في حي شعبي بالقاهرة «الكيت كات» وقام محمود عبدالعزيز بدور من أروع أدواره «الشيخ حسني» الكفيف الذي يعيش مع أمه المسنة وابنه الشاب المحبط الذي لا يجد وظيفة عقب تخرجه في الجامعة، كما يفشل في العثور على عقد عمل ويحاول الهجرة إلى الخارج، ويدخل في علاقة مع جارته، وتتداخل حكاياتهما مع الحكايات المختلفة لأهالي الشارع، وتتصاعد الأحداث في أجواء من الكوميديا السوداء.

وعن ذكريات المخرج داود عبدالسيد مع الساحر، قال: «عندما تعاونت معه في المرة الأولى في فيلم الصعاليك لمحت فيه موهبة ممثل كبير، وتعرفت على إمكانياته التمثيلية وبخاصة تلك المنطقة الكوميدية الظريفة لديه في الأداء، بالإضافة إلى معرفتي بشخصيته الحقيقية، فكان بالنسبة إليّ الجزء الصحيح الذي ملأ الفراغ، وأتذكر أنني أحضرت له شيخاً كفيفاً ليكون قريباً من الشخصية، عندما شاهدته في عزاء ذهبت إليه، وهو الشيخ نفسه الذي كان يقرأ القرآن في العزاء في نهاية الفيلم في جنازة عم مجاهد، وأعتقد أنه قام ببحث أكبر من ذلك، فمحمود عبدالعزيز كان نجماً كبيراً ويعرف كيف يكوِّن الشخصية، وهو ما ظهر في الشكل النهائي لها في الفيلم».

والمفارقة أن النجم عادل إمام كان مرشحاً لبطولة «الصعاليك»، ولكن دوره ذهب إلى النجم نور الشريف، ودارت في الكواليس ترشيحات أخرى للزعيم في أفلام داود عبدالسيد، ومنها «البحث عن سيد مرزوق» الذي لعب بطولته نور الشريف، وكانت الفرصة الأخيرة في «الكيت كات»، ووجد إمام أن دور «الشيخ حسني» لا يناسبه، وذهبت الشخصية إلى محمود عبدالعزيز، ليجسد الأخير من خلالها أروع أدواره السينمائية على الإطلاق.

وظل الساحر حاضرا في حلبة المنافسة بين النجوم، ورفض أدواراً كثيرة في مرحلة الانتقاء لأعماله، وذلك يفسر قلة ظهوره على شاشة السينما منذ بداية التسعينيات، وكانت حساسية وقلق ابن الإسكندرية القادم إلى عالم الفن هي سر تفرده، رغم مواجهته صعوبات شديدة في أولى خطواته الفنية، ورغم ذلك كل الذين اختلف معهم كانوا يعرفون قيمته الفنية جيداً، بينما يعيش هو أصعب اللحظات مع أدواره المتباينة، ويرهَق روحياً وجسدياً، وقد تأثرت إدارة محمود عبدالعزيز لموهبته في حدة مزاجه وتقلباته، فلم يقدم سوى 84 فيلماً عبر ما يقرب من نصف قرن من الزمان.

صفعة مدوية على وجه شريف منير

استعاد النجم شريف منير ذكرياته مع الساحر محمود عبدالعزيز، وقال إنه شارك الفنان الكبير في فيلمين هما «أبناء وقتلة»، و«الكيت كات»، وفي المرتين جسد شخصية ابنه، وفي كواليس العملين شعر بأنه والده، خصوصاً أنه لم يبخل عليه بالنصيحة، وكان ساحراً بمعنى الكلمة، ويعامل الجميع بمنتهى الود والاحترام، والصغير قبل الكبير من عمال وفنانين، ويملأ الأجواء بهجة ومرحاً وطيبة، فقد كان الراحل طيباً وخلوقاً ومتديناً إلى درجة كبيرة.

وتابع منير: «ما زلت أتذكر آخر مشهد في فيلم الكيت كات، وجلست فيه خلف الفنان محمود عبدالعزيز أثناء قيادته الموتوسيكل، ونزلنا إلى النيل بطبيعة أحداث الفيلم الذي كان يجسد فيه دور والدي الكفيف، وهنا بعد خروجنا من المياه، كان لدينا حوار كنت أقول له فيه (انت ليه مش مقتنع انك أعمى)، وأتذكر هنا أنني والأستاذ محمود أصابتنا هستيريا ضحك، والمفاجأة أننا كنا نرتجل الحوار معاً، وأيضاً مشهد الصفعة التي تلقيتها، خصوصاً أن المشهد يأتي بعدما استفز الابن والده لدرجة أنه صفعه على وجهه، وتلك الصفعة أصابت أذني بالطنين، وهذا المشهد تمت إعادته مرة أخرى، وفي المرة الثانية انتظرت (صُفارة) الأذن مرة أخرى».

ويضيف: «هذا المشهد لا يسقط من ذاكرتي أبداً، وفيه يخرج الشيخ حسني ويسير خلفه نجله يوسف مراقباً له حتى يسأله عن بيع المنزل، ويشعر والده بوجوده ثم ينادي عليه، وهنا يقول له الابن (بعت المنزل أم اشتريت بثمنه الحشيش؟)، فتكون النتيجة صفعه على وجهه، وهذا القلم (الصفعة) لن أنساه أبداً لأنه آلمني بشدة نظراً لأن الأب كفيف فيضرب بشكل عشوائي».

وانتهى منير إلى أن «تميز محمود عبدالعزيز يتجسد في كونه استطاع تقديم الكوميدي، والتراجيدي، والإنساني بنفس الحرفية والقوة، فهو موهبة استثنائية لن تتكرر، فلن تصدق أن شيخون في فيلم أبناء وقتلة، هو نفسه الشيخ حسني في الكيت كات، هو نفسه في رأفت الهجان».