ولما كانت الليلة الخامسة والأربعون بعد الخمسمائة قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما حكت للملك، وقالت أسألك أن تأخذ حقي من ولدك، أمَر بقتله، فدخل على الملك الوزير الرابع، وقال أيها الملك تأنّ في هذا الأمر الذي عزمت عليه، لأن العاقل لا يعمل عملاً حتى ينظر في عاقبته، وصاحب المثل يقول:من لم ينظر في العواقب فما الدهر له بصاحـب
وبلغني أيضاً أيها الملك السعيد من كيد النساء حكاية أخرى، قال له الملك وما بلغك؟ قال له بلغني أيها الملك، أن امرأة ذات حسن وجمال وبهاء وكمال لم يكن لها نظير، فنظرها بعض الشبان المغاوين فتعلق بها وأحبها محبة عظيمة، وكانت تلك المرأة عفيفة، فاتفق أن زوجها سافر يوماً من الأيام إلى بعض البلاد، فصار الشاب كل يوم يرسل إليها مرات عديدة ولم تجبه، فقصد الشاب عجوزاً كانت ساكنة بالقرب منه، فسلم عليها وقعد يشكو إليها ما أصابه من المحبة وما هو عليه من عشق المرأة، وأخبرها أن مراده وصالها، فقالت له العجوز أنا أضمن لك ذلك ولا بأس عليك، وأنا أبلغك ما تريد، فلما سمع الشاب كلامها دفع لها ديناراً ثم انصرف إلى حال سبيله.
حكاية عجيبة
فلما أصبح الصباح دخلت العجوز على المرأة وجدت معها عهداً ومعرفة، وصارت العجوز تتردد إليها في كل يوم وتتغدى وتتعشى عندها وتأخذ من عندها بعض الطعام إلى أولادها، وصارت تلك العجوز تلاعبها وتباسطها إلى أن أفسدت حالها، وصارت لا تقدر على مفارقة العجوز ساعة واحدة، فاتفق في بعض الأيام أن العجوز وهي خارجة من عند المرأة كانت تأخذ خبزاً وتجعل فيه شحماً وفلفلاً وتطعمه إلى كلبة مدة أيام، فجعلت الكلبة تتبعها من أجل الشفقة والحسنة، فأخذت لها يوماً شيئاً كثيراً من الفلفل والشحم وأطعمته لها، فما أكلته صارت عيناها تدمع من حرارة الفلفل، ثم تبعتها الكلبة وهي تبكي فتعجبت منها الصبية غاية العجب، ثم قالت للعجوز يا أمي ما سبب بكاء هذه الكلبة؟ فقالت لها يا بنتي هذه لها حكاية عجيبة، فإنها كانت صبية وكانت صاحبتي ورفيقتي وكانت صاحبة حسن وجمال وبهاء وكمال، وكان قد تعلق بها شاب في الحارة وزاد بها حباً وشغفاً حتى لزم الوسادة وأرسل إليها مرات عديدة لعلها ترق له وترحمه فأبت، فنصحتها وقلت لها يا بنتي أطيعيه في جميع ما قاله وارحميه وأشفقي عليه، فما قبلت نصيحتي.فلما قل صبر هذا الشاب شكا لبعض أصحابه، فعملوا لها سحراً وقلبوا صورتها من صورة البشر إلى صورة الكلاب، فلما رأت ما حصل لها وما هي فيه من الأحوال وانقلاب الصورة، ولم تجد من المخلوقين من يشفق عليها غيري، جاءتني إلى منزلي وصارت تستعطف بي وتقبل يدي ورجلي وتبكي وتنتحب، فعرفتها، وقلت لها كثيراً ما نصحتك فلم يفدك نصحي شيئاً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
خوف الزوجة
وفي الليلة السادسة والأربعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز صارت تحكي للمرأة خبر الكلبة وتعرفها عن حالها بمكر وخداع لأجل موافقتها لغرض تلك العجوز، وجعلت تقول لها لما جاءتني هذه الكلبة المسحورة وبكت قلت لها: كم نصحتك. ولكن يا بنتي لما رأيتها في هذه الحالة أشفقت عليها وأبقيتها عندي فهي على هذه الحالة، وكلما تتذكر حالتها الأولى تبكي على نفسها.فلما سمعت الصبية كلام العجوز حصل لها رعب كبير، وقالت لها يا أمي والله إنك خوفتيني بهذه الحكاية، فقالت لها العجوز من أي شيء تخافين؟ فقالت لها إن شاباً مليحاً متعلقاً بحبي وأرسل إلي مرات وأنا أمتنع منه وأنا اليوم أخاف أن يحصل لي مثل ما حصل لهذه الكلبة، فقالت لها العجوز احذري يا بنتي أن تخالفي فإني أخاف عليك كثيراً، وإذا كنت لم تعرفي محله فأخبريني بصفته وأنا أجيء به إليك ولا تتركي قلب أحد يتغير عليك، فوصفته لها وجعلت تتغافل وتريها أنها لم تعرفه، وقالت لها سأقوم وأسأل عنه.فلما خرجت من عندها ذهبت إلى الشاب تفتش عليه فلم تقف له على خبر، وقالت في نفسها كيف العمل؟ أيروح كل الذي فعلته خسارة؟ والوعد الذي وعدتني به من الدراهم؟ ولكن لم أخل هذه الحيلة تروح بلا شيء بل أفتش لها على غيره وأجيء به إليها، فبينما هي كذلك تدور في الشارع إذا نظرت شاباً حسناً جميلاً على وجهه أثر السفر، فتقدمت إليه وسلمت عليه، وقالت له هل لك طعام وشراب وصبية مهيأة، فقال لها الرجل: وأين هذا؟ قالت عندي في بيتي، فسار معها الرجل، والعجوز لا تعلم أنه زوج الصبية، حتى وصلت إلى البيت ودقت الباب، ففتحت لها الصبية الباب، فدخلت وهي تجري لتتهيأ بالملبوس والبخور، فأدخلته العجوز في قاعة الجلوس، وهي في كيد عظيم.حيلة الزوجة
فلما دخلت المرأة عليه، ووقع بصرها عليه، والعجوز قاعدة عنده، بادرت المرأة بالحيلة والمكيدة ودبرت لها أمراً في الوقت والساعة، ثم سحبت الخف من رجلها، وقالت لزوجها ما هكذا العهد الذي بيني وبينك! فكيف تخونني وتفعل معي هذا الفعل، فإني لما سمعت بحضورك جربتك بهذه العجوز فأوقعتك فيما حذرتك منه، وقد تحققت أمرك وأنك نقضت العهد الذي بيني وبينك، وكنت قبل الآن أظن أنك طاهر حتى شاهدتك بعيني مع هذه العجوز وأنك تتردد على النساء الفاجرات، وصارت تضربه بالخف على رأسه وهو يتبرأ من ذلك ويحلف لها أنه ما خانها مدة عمره، ولا فعل فعلاً مما اتهمته به، ولم يزل يحلف لها أيماناً بالله تعالى وهي تضربه وتبكي وتصرخ وتقول تعالوا إلي يا مسلمين، فيمسك فمها بيده وهي تعضه، وصار متذللاً لها ويقبل يديها ورجليها وهي لا ترضى عنه ولا تكف يدها عن صفعه، ثم إنها غمزت العجوز أن تمسك يدها عنه، فجاءتها العجوز وصارت تقبل يديها ورجليها إلى أن أجلستهما. فلما جعل الزوج يقبل يد العجوز ويقول لها جزاك الله كل خير حيث خلصتيني منها، صارت العجوز تتعجب من حيلة المرأة وكيدها. وهذا أيها الملك من جملة مكر النساء وحيلهن وكيدهن، فلما سمعه الملك انتصح بحكايته ورجع عن قتل ولده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.رد الجارية
وفي الليلة السابعة والأربعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير الرابع لما حكى الحكاية للملك رجع عن قتل ولده، فلما كان في اليوم الخامس دخلت الجارية على الملك بيدها قدح فيه سم واستغاثت ولطمت على خديها ووجهها، وقالت له أيها الملك إما أن تنصفني وتأخذ حقي من ولدك، وإلا أشرب هذا السم وأموت ويبقى ذنبي معلقاً بك إلى يوم القيامة، فإن وزراءك هؤلاء ينسبونني إلى الكيد والمكر، وليس في الدنيا أمكر منهم، أما سمعت أيها الملك حديث الصائغ مع الجارية؟ فقال ما جرى منهما يا جارية؟فقالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان رجل صائغ مولعاً بالنساء وشرب الخمر، فدخل يوماً من الأيام عند صديق له، فنظر إلى حائط من حيطان بيته فرأى فيه صورة جارية منقوشة لم ير الراؤون أحسن ولا أجمل ولا أظرف منها، فأكثر الصائغ من النظر إليها وتعجب من حسن هذه الصورة، ووقع حب هذه الصورة في قلبه إلى أن مرض وأشرف على الهلاك، فجاءه أحد أصدقائه يزوره، فلما جلس عنده سأله عن حاله وما يشكو منه.صورة امرأة جميلة
فقال له يا أخي إن مرضي كله وجميع ما أصابني من العشق، وذلك أني عشقت صورة منقوشة في حائط فلان أخي، فلامه الصديق وقال له إن هذا من قلة عقلك، فكيف تعشق صورة في حائط لا تضر ولا تنفع ولا تنظر ولا تسمع ولا تأخذ ولا تمنع؟ فقال له ما صورها المصور إلا على مثال امرأة جميلة، فقال له صديقه لعل الذي صورها اخترعها من رأسه، فقال له هأنذا في حبها ميت على كل حال، وإن كان لهذه الصورة شبيه في الدنيا فأنا أرجو الله تعالى أن يمدني بالحياة إلى أن أراه.فلما قام الحاضرون سألوا عمن صوّرها فوجدوه قد سافر إلى بلد من البلدان، فكتبوا له كتاباً يشكون له فيه حال صاحبهم، ويسألونه عن تلك الصورة، وما سببها وهل هواخترعها من ذهنه أو رأى لها شبيهاً في الدنيا؟ فأرسل إليهم أني صورت هذه الصورة على شكل جارية مغنية لبعض الوزراء وهي بمدينة كشمير بإقليم الهند.رجل عطار
فلما سمع الصائغ بالخبر، وكان ببلاد الفرس، تجهز وسار متوجهاً إلى بلاد الهند، فوصل إلى تلك المدينة من بعد جهد جهيد، فلما دخل تلك المدينة واستقر فيها ذهب يوماً من الأيام عند رجل عطار من أهل تلك المدينة، وكان ذلك العطار حاذقاً فطناً لبيباً، فسأله الصائغ عن ملكهم وسيرته، فقال له العطار أما ملكنا فعادل حسن السيرة محسن لأهل دولته منصف لرعيته وما يكره في الدنيا إلا السحرة، فإذا وقع في يده ساحر أو ساحرة ألقاهما في جب خارج المدينة ويتركهما بالجوع إلى أن يموتا. ثم سأله عن وزرائه، فذكر له سيرة كل وزير وما هو عليه إلى أن أنجز الكلام إلى الجارية المغنية، فقال له عند الوزير الفلاني، فصبر بعد ذلك أياماً حتى أخذ بتدبير الحيلة.فلما كان في ليلة ذات مطر ورعد وعاصفة ذهب الصائغ وأخذ معه عدة من اللصوص، وتوجه إلى دار الوزير سيد الجارية وعلق فيه السلم بكلاليب ثم طلع إلى أعلى القصر، فلما وصل إليه نزل إلى ساحته فرأى جميع الجواري نائمات، كل واحدة على سريرها، ورأى سريراً من المرمر عليه جارية كأنها البدر إذا أشرف في ليلة أربعة عشر، فقصدها وقعد عند رأسها وكشف الستر علهيا فإذا عليها ستر من ذهب، وعند رأسها شمعة وتحت رجليها شمعة، كل شمعة منهما في شمعدان من الذهب، وهاتان الشمعتان من العنبر وتحت الوسادة حق من الفضة فيه جميع حليها وهو مغطى عند رأسها، فأخرج سكيناً وضرب بها كفل الجارية فجرحها جرحاً واضحاً، فانتبهت فزعة مرعوبة، فلما رأته خافت من الصياح، فسكتت وظنت أنه يريد أخذ المال، فقالت له خذ الحق والذي فيه وليس لك بقتلي نفع وأنا في جيرتك وفي حسبك، فتناول الرجل الحق بما فيه وانصرف. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.الصائغ يحتال على الملك
وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد الخمسمائة قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الصائغ لما طلع قصر الوزير وضرب الجارية على كفلها فجرحها وأخذ الحق الذي فيه حليها وانصرف، انتظر إلى أن أصبح الصباح ولبس ثيابه وأخذ معه الحق الذي فيه الحلي ودخل به على ملك تلك المدينة، ثم قبل الأرض بين يديه وقال: أيها الملك، إنني رجل ناصح لك، وأنا من أرض خراسان، وقد أتيت مهاجراً إلى حضرتك لما شاع من حسن سيرتك وعدلك في رعيتك، فأردت أن أكون تحت لوائك، وقد وصلت إلى هذه المدينة آخر النهار فوجدت الباب مغلوقاً فنمت خارجه، فبينما أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت أربع نسوة إحداهن راكبة مكنسة والأخرى راكبة مروحة، فعلمت أيها الملك أنهن سحرة يدخلن مدينتك، فدنت إحداهن مني ورفستني برجلها وضربتني بذنب ثعلب كان في يدها فأوجعتني من الضرب، فضربتها بسكين كانت معي فأصابت كفلها، وهي مولية شاردة، فلما جرحتها انهزمت قدامي، فوقع منها هذا الحق بما فيه، فأخذته وفتحته فرأيت فيه هذا الحلي النفيس، فخذه فليس لي به حاجة لأني رجل سائح في الجبال، وقد رفضت الدنيا عن قلبي وزهدتها بما فيها، وإني قاصد وجه الله تعالى، ثم ترك الحق بين يدي الملك وانصرف.فلما خرج من عند الملك فتح الملك ذلك الحق وأخرج جميع الحلي منه وصار يقلبه بيده فوجد فيه عقداً كان أنعم به على الوزير سيد الجارية، فدعا الملك بالوزير، فلما حضر بين يديه قال له هذا العقد الذي أهديته إليك، فلما رآه عرفه وقال للملك نعم وأنا أهديته إلى جارية مغنية عندي.فقال له الملك أحضر لي تلك الجارية فأحضرها، فلما حضرت الجارية بين يدي الملك قال له اكشف عن كفلها، وانظر هل فيه جرح أم لا، فكشف الوزير عنه فرأى فيه جرح سكين، فقال الوزير للملك نعم يا مولاي فيها الجرح، فقال الملك للوزير هذه ساحرة كما قال لي الرجل الزاهد بلا شك ولا ريب، ثم أمر الملك بأن يجعلوها في جب السحرة فأرسلوها إلى الجب في ذلك النهار.فلما جاء الليل عرف الصائغ أن حيلته قد تمت، فجاء إلى حارس الجب وبيده كيس فيه ألف دينار، وجلس مع الحارس يتحدث إلى ثلث الليل الأول، ثم دخل مع الحارس في الكلام وقال له: اعلم يا أخي أن هذه الجارية بريئة من هذه البلية التي ذكروها، وأنا الذي أوقعتها، وقص عليه القصة من أولها إلى آخرها، ثم قال له يا أخي خذ هذا الكيس فإن فيه ألف دينار وأعطني الجارية أسافر بها إلى بلادي، فهذه الدنانير أنفع لك من حبس الجارية، واغتنم أجرنا، ونحن الاثنان ندعو لك بالخير والسلامة.كيد الرجال
فلما سمع حكايته تعجب غاية العجب من هذه الحيلة وكيف تمت، ثم أخذ الحارس الكيس بما فيه وتركها له وشرط عليه ألا يقيم بها في هذه المدينة ساعة واحدة، فأخذها الصائغ من وقته وسار وجعل يجد في السير إلى أن وصل إلى بلاده وقد بلغ مراده، فانظر أيها الملك إلى كيد الرجال وحيلتهم، ووزراؤك يردونك عن أخذ حقي، وفي غد أُوقف أنا وأنت بين يدي حاكم عادل ليأخذ حقي منك أيها الملك. فلما سمع الملك كلامها أمر بقتل ولده. فدخل عليه الوزير الخامس، وقبل الأرض بين يديه ثم قال: أيها الملك العظيم الشأن تمهل ولا تعجل على قتل ولدك، فرب عجلة أعقبت ندامة، وأخاف عليك أن تندم ندامة الذي لم يضحك بقية عمره، فقال له الملك: وكيف ذلك أيها الوزير؟ قال بلغني أيها الملك أنه كان رجل من ذوي البيوت والنعم، وكان ذا مال وخدم وعبيد وأملاك، فمات إلى رحمة الله تعالى وترك ولداً صغيراً، فلما كبر الولد أخذ في الأكل والشرب وسماع الطرب والأغاني وتكرم وأعطى وأنفق الأموال التي خلفها له أبوه حتى ذهب بالمال جميعه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.باب مغلق و10 شيوخ
في الليلة التاسعة والأربعين بعد الخمسمائة قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الولد لما أذهب المال الذي خلفه له أبوه ولم يبق منه شيء، رجع على بيع العبيد والجواري والأملاك، وأنفق جميع ما كان عنده من مال أبيه وغيره، فافتقر حتى صار يشتغل مع الفعلة، فمكث على ذلك مدة سنة، فبينما هو جالس يوماً من الأيام تحت حائط ينتظر من يستأجره إذا هو برجل حسن الوجه والثياب، فدنا من الشاب وسلم عليه، فقال له الولد يا عم هل أنت تعرفني قبل الآن؟ فقال له: لا أعرفك يا ولدي أصلاً، بل أرى آثار النعمة عليك وأنت في هذه الحالة، فقال له يا عم نفذ القضاء والقدر، فهل لك يا عم يا صبيح الوجه من حاجة تستخدمني فيها؟ فقال له: يا ولدي أريد أن أستخدمك في شيء يسير. قال له الشاب: وما هو يا عم؟ فقال له: عندي عشرة من الشيوخ في دار واحدة، وليس عندنا من يقضي حاجتنا، ولك عندنا من المأكل والمشرب ما يكفيك لتقوم بخدمتنا، ولك عندنا ما يصل إليك من الخير والدراهم، ولعل الله يرد عليك نعمتك بسببنا، فقال له الشاب: سمعاً وطاعة. ثم قال له الشيخ: لي عليك شرط، فقال له الشاب: وما شرطك يا عم؟ فقال له: يا ولدي أن تكون كاتماً لسرنا فيما ترانا عليه، وإذا رأيتنا نبكي فلا تسألنا عن سبب بكائنا. فقال له الشاب: نعم يا عم، فقال له الشيخ: يا ولدي سر بنا على بركة الله تعالى. فقام الشاب خلف الشيخ إلى أن أوصله إلى الحمام فأدخله فيه وأزال عن بدنه ما عليه من القشف، ثم أرسل الشيخ رجلاً فأتى له بحلة حسنة من القماش فألبسه إياها، ومضى به إلى منزله عند جماعته.فلما دخل الشاب وجدها داراً عالية البنيان مشيدة الأركان واسعة بمجالس متقالبة وقاعات، في قاعة فسقية من الماء عليها طيور تغرد وشبابيك تطل من كل جهة على بستان حسن في تلك الدار، فأدخله الشيخ في أحد المجالس فوجده منقوشاً بالرخام الملون، ووجد سقفه منقوشاً باللازورد والذهب الوهاج، وهو منقوش ببسط الحرير، ووجد فيه عشرة من الشيوخ قاعدين متقابلين وهم لابسون ثياب الحزن يبكون وينتحبون، فتعجب الشاب من أمرهم وهم أن يسأل الشيخ فتذكر الشرط فمنع لسانه، ثم إن الشيخ سلم إلى الشاب صندوقاً فيه ثلاثون ألف دينار، وقال له: يا ولدي أنفق علينا من هذا الصندوق وعلى نفسك، وأنت أمين، واحفظ ما استودعتك فيه.فقال الشاب: سمعاً وطاعة، ولم يزل الشاب ينفق عليهم مدة أيام وليال، ثم مات واحد منهم فأخذه أصحابه وغسلوه وكفنوه ودفنوه في روضة خلف الدار، ولم يزل الموت يأخذ منهم واحداً بعد واحد إلى أن بقي الشيخ الذي استخدم ذلك الشاب، فاستمر هو والشاب في تلك الدار، وليس معهما ثالث، وأقاما على ذلك مدة من السنين، ثم مرض الشيخ. فلما يئس الشاب من حياته أقبل عليه وتوجع له، ثم قال له: يا عم أنا خدمتكم وما كنت أقصر في خدمتكم مرة واحدة طوال اثني عشرة سنة، وأنا أنصح لكم وأخدمكم بجهدي وطاقتي، فقال له الشيخ: نعم يا ولدي، خدمتنا إلى أن توفيت هذه المشايخ إلى رحمة الله عزوجل، ولابد لنا من الموت. فقال الشاب: يا سيدي أنت على خطر وأريد منك أن تعلمني ما سبب بكائكم ودوام انتحابكم وحزنكم وتحمركم.فقال له: يا ولدي، ما لك بذلك من حاجة، ولا تكلفني ما لا أطيق، فإني سألت الله تعالى أن لا يبلي أحداً ببليتي، فإن أردت أن تسلم مما وقعنا فيه فلا تفتح ذلك الباب، وأشار إليه بيده وحذره منه، وإن أردت أن يصيبك ما أصابنا فافتحه، فإنك تعلم سبب ما رأيت منا، لكنك تندم حيث لا ينفعك الندم.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وإلى اللقاء في حلقة الغد